للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أهل المعرفة، ونباهة أصحاب الشرف، وإلا؛ فهو عليه السَّلام العبد المخيَّر (بين الدنيا)؛ أي: البقاء فيها إلى وقت يعلمه، وسميت دنيا؛ لدنوها وقربها من الزوال (وبين ما عنده)؛ أي: عند الله؛ وهو الدار الآخرة وما أعد له فيها من النعيم المقيم، وسميت آخرة؛ لتأخرها عن الدنيا، أو لعدم زوالها، فهي آخرة حقيقة.

وقوله: (فاختار) أي: العبد المخيَّر (ما) أي: الذي (عند الله)؛ أي: من النعيم الدائم، ساقط عند الأصيلي وابن عساكر، وضرب عليه أبو الوقت، (فبكى أبو بكر) زاد الأصيلي: (الصديق)؛ أي الأكبر رضي الله عنه، والفاء للسببية.

وقوله: (فقلت في نفسي) ... إلى قوله: (أعلمنا) من كلام أبي سعيد الخدري: (ما يبكي) كلمة (ما) استفهامية مبتدأ، وقوله: (هذا الشيخ)؛ يعني: أبا بكر الصديق، منصوب على المفعولية، وما بعده بالتبعية، و (يبكي) : من الإبكاء لا من البكاء؛ لأنَّ بكيته؛ بمعنى: بكيت عليه، وهنا المعنى: أي شيء يجعل هذا الشيخ باكيًا؛ فافهم.

وقوله: (إنْ يكنِ اللهُ خيَّرَ عبدًا؟) قيد للاستفهام؛ أي: إن كان الله خيَّر بعض عباده بين ما ذكر، وهذا رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (إنْ يكنْ لله عبدٌ خُيِّر).

قال إمام الشَّارحين: (وإعراب الأولى هو أنَّ «إن» بالكسر: شرطية، و «يكن» : فعل الشرط، وهو مجزوم، ولكنه لما اتصل بلفظ «الله»؛ كسر؛ لأنَّ الأصل في الساكن إذا حُرك؛ حُرك بالكسر، قال الكرماني: «والجزاء محذوف، يدل عليه السياق»، قلت: لا حاجة إلى هذا، بل الجزاء قوله: «فاختار ما عند الله») انتهى كلام [إمام] الشَّارحين.

واعترضه العجلوني، فزعم أنَّ فيه نظر؛ لأنَّه ليس المعنى عليه، انتهى.

قلت: واعتراضه ونظره مردودان عليه، بل المعنى عليه صحيح، ويدل عليه دخول الفاء، وهي لا تدخل إلا على الجزاء كما هنا؛ فافهم، ولا تغتر بهذه العصبية الزائدة.

ثم قال إمام الشَّارحين: «خَيَّر» على صيغة المعلوم من التخيير، و «عبدًا» : مفعوله، والضمير في «فاختار» يرجع إلى العبد، و «ما عند الله» : في محل النصب، مفعوله، وإعراب الرواية الثانية: هو أنَّ «إنْ» أيضًا: كلمة شرط، و «يكنْ» : مجزوم به، وقوله: «عبد» : مبتدأ، وخبره قوله: «لله» مقدمًا، وقوله: «خُيِّر» على صيغة المجهول في محل رفع؛ لأنَّه صفة لـ «عبد»، والجزاء هو قوله: «فاختار») انتهى.

قال العجلوني: (ولم يتعرض لاسم «يكن» أو فاعلها، ولعله ضمير الشأن، والمناسب جعل «عبد» مرفوع «يكن» تامة أو ناقصة، و «لله» : حال منه على جعلها تامة أو ناقصة، وجملة «خير» صفة لـ «عبد»، أو خبرًا لـ «يكن»؛ مثل قولك: إن يكن في الدار رجل قائمًا؛ فالأمر كذا؛ فتأمَّل) انتهى.

قلت: وهذا فيه تكلف وتعسف لا حاجة إليه.

وقوله: (ولم يتعرض لاسم «يكن» ...) إلخ؛ ممنوع، فإنَّه قد صرح بأنَّ الجزاء قوله: (فاختار)، ولهذا دخلته الفاء، وإذا وجد فعل الشرط وجزاؤه؛ لا حاجة إلى غيره؛ لأنَّه اسمها وفاعلها في الحقيقة.

وقوله: (ولعله ضمير الشأن) : كلام غير موجه؛ لأنَّ كلمة (إن) شرطية، فكيف تجعل للشأن؟! وهو خلاف القواعد.

وقوله: (والمناسب...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّ فيه تكلفًا لا حاجة إليه، مع كونه غير موافق للمعنى المراد منه؛ فافهم.

وقال الدماميني: (ووقع في بعض النُّسخ: «أن يكون اللهُ عبدًا خيَّر»؛ بتقديم المفعول مع فتح «أن» وكسرها).

وقال السفاقسي: (ويصح أن تكون الهمزة -يعني: همزة «إن» - مفتوحة)، قال ابن التين: (على أنَّها تعليلية)، وقال إمام الشَّارحين: بأن (١) يكونمنصوبًا بـ (أن)، ويكون المعنى: ما يبكيه لأجل أن يكون الله خيَّر عبدًا؟

قال ابن حجر: (وفيما قاله ابن التين نظر)، ولم يذكر وجهه.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (في نظره نظر؛ لأنَّ التعليل هنا لأجل فراقه عليه السَّلام، لا على كونه خُيِّر بين الدنيا وبين ما عنده).

واعترضه العجلوني، فزعم بل النَّظر في نظره؛ لأنَّه علل بعكس ما قاله، انتهى.

قلت: هذا محاولة وخروج عن الظَّاهر؛ لأنَّه لم يذكر وجه النَّظر بل ذكره رجمًا بالغيب، وعلى فرض كون التعليل بالمعنى المذكور؛ إنَّما هو بحسب ظاهر الأمر، وإنما هو في الحقيقة لأجل الفراق، وهو يستلزم أن يكون خيِّر بين الأمرين، فما زعمه ليس في محله وإنما هو من تحريك عرق العصبية؛ فافهم.

واستشكل جزم (يكن) على فتح (أن)، وأجاب الكرماني قياسًا على توجيه ابن مالك في حديث: (لن ترع) : بأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكن النُّون له، وحذف الواو؛ لالتقاء الساكنين.

وقال العجلوني: (يحتمل أنَّها جازمة؛ كقوله: تعالوا إلى أن يأتنا العيد) انتهى.

قلت: يحتمل كونها جازمة في الشعر للضرورة، ولا ضرورة ههنا، والذي يفهم من كلام إمام الشَّارحين: أنَّه على الفتح بالنصب لا غير؛ لأنَّه قال: بأن (٢) يكون منصوبًا بـ (أن) كما ذكرنا عبارته، وظاهر اقتصاره على النصب أنَّه لا يجوز غيره وهو الرواية، واقتصار الكرماني على الجزم وتوجيهه قياسًا كما مر؛ غير ظاهر؛ لأنَّه قياس مع الفارق، والرواية لا تساعده، وعلى هذا فلا يلزم توجيه الجزم، ولا التعرض إليه؛ لأنَّه غير محتاج إليه؛ فافهم، ولا تغتر بعصبية العجلوني؛ لأنَّه قد تحرك عرقه؛ فافهم.

(بين الدنيا) متعلق بقوله: (خيِّر) (وبين ما عنده) أي: الله تعالى من النعم الدائمة، (فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ)؛ أي: المخير بين الأمرين، و (العبدَ) : منصوب؛ لأنَّه تابع لاسم (كان)، وهو الرواية.

وزعم العجلوني أنَّه يحتمل النصب والرفع، كما يحتمل (هو) المحل وعدمه، انتهى.

قلت: احتمال النصب مع احتمال المحل في (هو) هو الصَّواب؛ لأنَّه الرواية والمعنى عليه، وأمَّا الاحتمال الثاني؛ فبعيد؛ لأنَّ الرفع لا وجه له صحيح، وكون (هو) لا محل له بعيد أيضًا؛ لأنَّه يخل في المعنى، والرواية لا تساعد هذا؛ فليحفظ.

وسقط هنا أيضًا: (فاختار ما عند الله) للأصيلي وابن عساكر، وضرب عليه أبو الوقت.

(وكان أبو بكر) أي: الصديق الأكبر رضي الله عنه (أعلمنا) أي: أكثرنا علمًا؛ حيث فهم أنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى حزنًا على فراقه وقال: (بل نفديك بآبائنا وأموالنا وأولادنا)، وإنما كان أبو بكر أعلم الصَّحابة؛ لأنَّه لم ينكر عليه أحد


(١) في الأصل: (فإن)، وهو تحريف.
(٢) في الأصل: (فإن)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>