للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ممن حضر من الصَّحابة حين قال أبو سعيد: (وكان أبو بكر أعلمنا)، اختصه الشَّارع بالخصوصية العظمى، وأظهر أنَّ للصديق من الفضائل والحقوق ما لا يشاركه في ذلك مخلوق، ولهذا (قال) وللأصيلي وأبي ذر: (فقال)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر؛ لا تَبك)؛ بفتح الفوقية؛ أي: على فراقي، وهذا أمر منه له بالصبر، وأعقبه بتسلية نفسه، وسكون روعه، وعلل ذلك بقوله: (إنَّ أمنَّ الناس)؛ بنصب (أمنَّ) اسم (إنَّ)، هكذا رواية الأكثرين، وفي رواية كما في «التنقيح» : (إنَّ من أمن الناس) على حذف اسمها والمجرور صفته؛ أي: رجلًا من أمن، وجوز الدماميني أن يكون على حد قوله عليه السَّلام: «إنَّ من أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، فأمَّا (من) زائدة في الإيجاب والتعريف على رأي الأخفش، وأمَّا اسمها؛ فضمير الشأن محذوف (١)، انتهى، (عليَّ) بتشديد ياء المتكلم (في صحبته وماله أبو بكر)؛ أي: أكثرهم جودًا وسماحة لنا بنفسه وماله، من المن؛ بمعنى: العطاء من غير استثابة، ومنه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ} [ص: ٣٩]، وقوله: {لَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: ٦]، وليس هو من المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة؛ لأنَّه مبطل للثواب، لأنَّ المنة لله ولرسوله في قبول ذلك، قاله الخطابي، وقال القرطبي: ووزن «أمن» : «أفعل» من المنة؛ أي: الامتنان؛ أي: أكثر منةً؛ ومعناه: أنَّ أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره؛ لامتن بها، وذلك لأنَّه بادر بالتصديق، ونفقة الأموال، وبالملازمة، والمصاحبة إلى غير ذلك بانشراح صدر ورسوخ علم بأنَّ الله ورسوله لهما المنة في ذلك والفضل، لكن النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بجميل أخلاقه وكرم أعرافه، اعترف بذلك عملًا بشكر المنعم، ليسنَّ (٢)؛ كما قال للأنصار، وفي «جامع الترمذي» من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «ما لأحد عندنا يد إلا كافيناه ما خلا أبا بكر، فإنَّ له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة» انتهى.

(ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي) كذا في رواية الأربعة، وفي رواية غيرهم: (ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا)، قال إمام الشَّارحين: الاتخاذ: (افتعال) من الأخذ، و (اتخذ) يتعدى إلى مفعول واحد، ويتعدى إلى مفعولين؛ أحدهما بحرف الجر، فيكون بمعنى: أختار وأصطفي، وههنا سكت عن أحد مفعولهما، وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنَّه قال: لو كنت متخذًا من الناس خليلًا؛ (لاتخذت) منهم (أبا بكر) يعني: خليلًا، كما هو ثابت في رواية الأصيلي دون غيره؛ فافهم، والخليل: المخال؛ وهو الذي يخالك؛ أي: يوافقك في خلالك، أو يسايرك في طريقتك، من الخِل؛ وهو الطريق في الرمل، أو يسد خللك كما تسد خلله، أو يداخلك خلال منازلك (٣)، وقيل: أصل الخلة: الانقطاع، فخليل الله: المنقطع إليه، وقال ابن فورك: (الخلة: صفاء المودة بتخلل الأسرار، وقيل: الخليل: من لا يتسع قلبه لغير خليله)، وقال القاضي عياض: أصل الخلة: الافتقار والانقطاع، فخليل الله؛ أي: المنقطع إليه؛ لِقَصْرِهِ حاجته عليه، وقيل: الخلة: الاختصاص بأصل الاصطفاء، وسمي إبراهيم خليل الله؛ لأنَّه والى فيه وعادى فيه، وقيل: سمي به؛ لأنَّه تخلل بخلالٍ حسنة، وأخلاق كريمة، وخله الله: نصره وجعله إمامًا لمن بعده.

وزَعْمُ السفاقسي أنَّه كان اتخذ خليلًا من الملائكة، ولهذا قال: «لو كنت متخذًا خليلًا من أمتي»؛ يرده قوله عليه السَّلام: «ولكن صاحبكم خليل الرحمن»، وفي رواية: «لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي»؛ أي: أنَّ حب الله لم يُبقِ في قلبي موضعًا لغيره تعالى.

ومعنى الحديث: أنَّ أبا بكر متأهل لأن يتخذه عليه السَّلام خليلًا لولا المانع المذكور، وهو أنَّه امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة الله تعالى، ومحبته، ومراقبته، حتى كأنَّها مزجت أجزاء قلبه بذلك، فلم يتسع قلبه لخليل آخر، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن يَعْلَق القلب به؛ فهو حبيب، ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشةأنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة التي هي فوق المحبة.

وقد اختلف أرباب القلوب في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى أن الخلة أعلا؛ تمسكًا بهذا الحديث، وذهب ابن فورك إلى أنَّ المحبة أعلا؛ لأنَّها صفة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وهو أفضل من الخليل، وقيل: هما سواء؛ فلا يكون الخليل إلا حبيبًا ولا الحبيب إلا خليلًا.

وزعم الفراء أنَّ معناه: فلو كنت أخص أحدًا بشيء من العلم دون الناس؛ لخصصت به أبا بكر؛ لأنَّ الخليلك من تفرد بخله من الفضل لا يشركه فيها أحد.

وقيل: معنى الحديث: لو كنت منقطعًا إلى غير الله؛ لانقطعت إلى أبي بكر، لكن هذا ممتنع؛ لامتناع ذلك، وقول بعض الصَّحابة: (سمعت خليلي يقول) لا بأس به؛ لأنَّ انقطاعه إلى النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم انقطاع إلى الله عز وجل، والممتنع انقطاعه عليه السَّلام إلى غير الله تعالى لا انقطاع غيره إليه، كذا قرره إمام الشَّارحين، وأخذ عبارته العجلوني ونسبها لنفسه، ولهذا عزوتها إليه؛ فافهم.

وقال الخطابي: (الخليل: الفقير، كأنَّهم غيروا فقره إلى محبته، والاسم منه: الخَلة؛ بالفتح، ومن المحبة: الخُلة؛ مضمومة، وقيل: الخليل: مشتق من خلة المرعى؛ وهو نبات تستحليه الماشية فتستكثر منه) انتهى.

(ولكن أُخُوَّة الإسلام)؛ بِضَمِّ الهمزة والخاء المعجمة، مع تشديد الواو، كذا في رواية الأكثرين، وللأصيلي: (ولكن خُوَّة الإسلام)؛ بحذف الهمزة.

قال الكرماني: (وتوجيهه أن يقال: نقلت حركة الهمزة إلى النُّون في «لكن»، وحذفت الهمزة، فعرض بعد ذلك استثقال ضمة من كسرة وضمة، فسكَّن النُّون تخفيفًا، فصار: «ولكن خوة»، وسكون النُّون بعد هذا العمل غير سكونه الأصلي (٤)، ثم نقل عن ابن مالك أنَّ فيه ثلاثة أوجه؛ سكون النُّون وثبوت الهمزة بعدها مضمومة، وضم النُّون وحذف الهمزة، فالأول أصل، والثاني فرع، والثالث فرع فرع) انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (كل هذا تكلف خارج عن القاعدة، ولكن الوجه أن يقال: إنَّ «لكنْ» على حالها ساكنة النُّون، وحذفت الهمزة من «أخوة» اعتباطًا، ولهذا قال ابن التين: رويناه بغير همزة، ولا أصل لهذا، وكأنَّ الهمزة سقطت هنا، وهي ثابتة في باقي المواضع، وقوله: «أخوة الإسلام» : كلام إضافي مبتدأ، وخبره محذوف؛ تقديره: ولكن أخوة الإسلام أفضل أو نحوه، ويؤيده أنَّ في حديث ابن عبَّاس الذي بعده وقع هكذا) انتهى كلامه.

قال العجلوني: (ليتأمل في دعواه الكلية، وهل القاعدة الحذف الاعتباطي أو القياسي؟ والمقرر الأول) انتهى.

قلت: مراد الكرماني وابن مالك: أنَّ الحذف هنا قياسي مع أنَّ القاعدة أنَّه اعتباطي، على أنَّ ما قالاه تكلف وتعسف بلا فائدة، والحق ما قاله إمام الشَّارحين، وهو الصَّواب، ولا تغتر بما يزعمه أهل التعصب البارد،


(١) في الأصل: (محذوفًا).
(٢) في الأصل: (ليس)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (من أزلك)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) في الأصل: (الأصيلي)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>