بالانفراد ويدل لأنَّ هذا هو المراد: ما رواه المصنف في «فضل الجماعة» عن أبي سعيد الخدري: أنَّه سمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة»، وليس فيه -أي لحديث الباب- ذكر المسجد في السوق، ولم أر في بعض طرقه ذكره، ولا من تعرض له من الشراح، فلا تحصل به المطابقة للتَّرجمة إذا أريد فيها المسجد الشرعي إلا ببعض التكلفات يراد به اللغوي، ولعل ذلك هو الحامل لما نقله الكرماني في تفسيره في التَّرجمة: بمواضع إيقاع الصلاة، وهو المناسب دون ما في «الفتح» و «العمدة»؛ فراجعه وتأمله) انتهى كلامهما.
قلت: كل منهما غير مصيب، وأراد بـ «الفتح» ما ذكره ابن حجر، و «العمدة» ما ذكره إمام الشَّارحين؛ لأنَّهما قالا: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «وصلاته في سوقه») انتهى؛ يعني: على حذف مضاف؛ أي: في مسجد سوقه؛ لأنَّ مسجد السوق لا توجد فيه الجماعة في غالب الأوقات، فصلاة الرجل الواحد فيه كصلاته في بيته منفردًا.
وإنَّما جعل البيت ومسجد السوق في حكم واحد؛ لعدم وجود الجماعة غالبًا فيهما، وبهذا تحصل المطابقة للتَّرجمة، وهذا هو مراد المؤلف؛ لأنَّه ترجم بـ (الصلاة في مسجد السوق)، وساق هذا الحديث، وأشار إلى أنَّ قوله: (وصلاته في سوقه)؛ أي: في مسجد سوقه؛ لأنَّ السوق طريق العامة، والصلاة فيه مكروهة، ولا كلام فيها هنا، وإنَّما المراد: مسجد السوق، كما لا يخفى.
وكيف غفل العجلوني والكرماني عن هذا حتى قالا ما لا تقبله الطباع؟ على أنَّ ما ذكراه من قوله: (وقد عبر عن الانفراد...) إلى آخره؛ ليس على ما ينبغي.
ولا حاجة إلى حديث أبي سعيد، فإنَّ في رواية البخاري من حديث نافع عن ابن عمر: (صلاة الرجل في جماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة).
وعند ابن ماجه: (فضل الصلاة على صلاة أحدكم وحده خمس وعشرون جزءًا)، وقوله: (وحده) : صادق على ما إذا كان في بيته أو مسجد سوقه، كما لا يخفى، فهذا يوضح ويبين أنَّ المراد به الإنفراد؛ فافهم.
وقوله: (وليس فيه...) إلى آخره؛ ممنوع، فإنَّ ذكر السوق قرينة دالة على أنَّ المراد بقوله: (وصلاته في سوقه)؛ أي: مسجد سوقه؛ لأنَّ السوق ليس بمحل للصلاة، وإنَّما هو طريق العامة، كما لا يخفى.
وقوله: (ولم أر في بعض طرقه..) إلى آخره؛ ممنوع؛ لأنَّه لا يلزم من عدم رؤيته له أن لا يكون موجودًا، على أنَّه لا يلزم التصريح بالمسجد؛ لأنَّه معلوم من المقام، والقرائن تدل عليه.
وقوله: (ولا تعرَّض له من الشراح..) إلى آخره: لا يخفى أنَّ عدم تعرضهم لذلك لكونه واضحًا غير خفي، وإنَّما يخفى على من يدعي الفهم وليس عنده منه شيء، وحصول المطابقة لحديث الباب لما ترجم ظاهرة، وأنَّ المراد بالمسجد: الشرعي، ولا تلكف فيه، وأنَّ المدعي للتكلف غير مصيب، بل في أنَّ المراد به: اللغوي تكلف لا يطاق، كما زعمه الكرماني؛ لأنَّ مواضع الصلاة لا إشارة إليها ههنا ولا تعرض، وهي غير مناسبة للمقام، كما لا يخفى، وقد ذكرنا ذلك فيما سبق بزيادة؛ فافهم، فما في «الفتح» و «العمدة» هو العمدة؛ فليحفظ.
(فإنَّ أحدكم) : خطاب خاص، والمراد به العام، هكذا بالفاء رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (بأنَّ أحدكم)؛ بالموحَّدة، ووجهها: أن تكون الباء للمصاحبة، فكأنَّه قال: تزيد على صلاته بخمس وعشرين درجة مع فضائل أُخَر؛ وهو رفع الدرجات، وصلاة الملائكة، ونحوها، ويجوز أن تكون للسببية، قاله إمام الشَّارحين، (إذا توضأ فأحسن)؛ أي: فأسبغ، كذا هو بدون مفعوله؛ والتقدير: فأحسن الوضوء، والإحسان إلى الوضوء: إسباغه برعاية السنن والآداب، كذا في «عمدة القاري».
قلت: وهذا تعليل لما سبق، ويدل على حذف المفعول السياق من الكلام؛ لأنَّه يقتضي أنَّ هناك مفعولًا محذوفًا، وقال القسطلاني: (نعم؛ ألحق في «الفرع» لا في «أصله» : «وضوءه» بعد «فأحسن»، ويشبه أن يكون بغير خط كاتب الأصل).
وزعم العجلوني أنَّه يوجد في كثير من النُّسخ المعتمدة: (فأحسن الوضوء)؛ بالألف واللَّام.
قلت: لم نر في النُّسخ هكذا مطلقًا ولو غير معتمدة، فالله أعلم بصحتها مع أنَّ القسطلاني ذكر لفظ: (وضوءه) مع عدم الاعتماد عليه، وما هذا إلا تصحيف من النَّاسخين؛ فافهم.
(وأتى المسجد) أي: الجامع حال كونه (لا يريد) أي: بإتيانه (إلا الصلاة)، فالجملة حالية، والمضارع المنفي إذا وقع حالًا؛ يجوز فيه الواو وتركه، وهو عطف على قوله: (فتوضأ).
وزعم العجلوني أنَّه عطف على (فأحسن).
قلت: ما قلناه هو الصَّواب؛ لأنَّ المراد: الوضوء وإتيان المسجد وهو متوضئ وإحسان الوضوء؛ أي: إسباغه من المكملات؛ فافهم.
قال الكرماني: (ومثل الصلاة الاعتكاف مثلًا؛ إذ المراد من الحصر: أنَّه لا يريد إلا العبادة، واقتصر على الصلاة؛ لأنَّها الأغلب) انتهى.
قلت: هذا غير ظاهر؛ لأنَّ الثواب المذكور إنَّما وَرَد في الصلاة خاصة، ولهذا اقتصر عليها؛ لأنَّها قد اشتملت على قيام، وركوع، وسجود، وذكر، وتسبيح، وقراءة قرآن بالاستقلال، أمَّا الاعتكاف؛ فليس كذلك؛ لأنَّه مكث في المسجد فقط، وهو وإن كان عبادة إلا أنَّها قاصرة، والصلاة أعم، فالمراد من الحصر إنَّما هو حصر الصلاة لا العبادة مطلقًا؛ فليحفظ.
(لم يخط خَطوةً)؛ بفتح الخاء المعجمة وضمها، روايتان، وقال السفاقسي: (رويناه بفتح الخاء)، وقال القرطبي: (الرواية بِضَمِّ الخاء، فالمضمومة: ما بين القدمين، والمفتوحة: المرة الواحدة)، وهي منصوبة على المفعول المطلق لقوله: (يخط)، ويحتمل أنها مفعول به؛ لأنَّ المعنى: لم يفعل خطوة، قلت: وهو بعيد، والأول أظهر؛ فافهم، (إلا رفعه الله بها)؛ أي: بالخطوة الواحدة، وسقط لفظ: الجلالة للأصيلي (درجة) أي: واحدة (أو حطَّ)؛ بتشديد الطاء المهملة؛ أي: أسقط وأزال (عنه خطيئة)؛ أي: واحدة، ونصب (درجة) و (خطيئة) على التمييز، قاله القسطلاني.
واعترضه العجلوني فقال: (والظَّاهر أنَّ نصب «درجة» و «خطيئة» على المفعولية لفعليهما، لا نصب على التمييز كما قاله القسطلاني مع أنَّه سيأتي له في باب «فضل الجماعة» أنَّه أعربهما نائبين عن الفاعل؛ لأنَّ الرواية هناك: «إلا رُفِعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة») انتهى.
قلت: ما قاله القسطلاني أولى وأنسب، وهو الظَّاهر، وما ذكره عن باب (فضل الجماعة) مبني على الرواية، فإنَّ الإعراب على حسب العوامل المقتضية له، فإذا كانت الرواية هكذا؛ فالإعراب هكذا، أمَّا ههنا؛ فالفعل مفعوله موجود وهو الضمير، و (رفع) لا يتعدى إلى مفعولين، كما لا يخفى، فتجويز النصب على المفعولية غير ظاهر، كما لا يخفى.
وهكذا رواية الكشميهني بـ (أو)، وللأصيلي: (وحط عنه بها خطيئة)؛ بالواو، وزيادة: (بها)، قال الشَّارح: (وهذا أشمل، وقد تكون «أو» بمعنى الواو، فلا تنافي)؛ فليحفظ، والله أعلم، اللهم أحسن عاقبتنا في