للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الأمور كلها.

(حتى يدخل) أي: أحدكم (المسجد)؛ أي: الجامع، وهذا غاية لرفع الله له بالخطوة درجة ولحط الخطيئة عنه، فالمقتضي للرفع والحط المشي إلى المسجد، فإذا دخله؛ زال مقتضيها، فلهذا جعله غاية لهما، ولم يبق على عدم ثواب أصلًا، بل ثواب آخر، وترقي في الدرجات، ونجاة من الهلكات أشار إلى ذلك بقوله: (وإذا دخل) أي: الرجل المذكور (المسجد) أي: الجامع؛ (كان في صلاة)؛ أي: حكمًا من حيث الثواب؛ أي: في ثواب (ما كانت)؛ بالتأنيث؛ أي: الصلاة، ولأبي ذر: (ما كان)؛ بالتذكير؛ أي: المسجد، كذا ذكره إمام الشَّارحين، وهو أعم مما فسره العجلوني بالفعل أو مكثه؛ لأنَّ المسجد مذكور في السياق، فالضمير في (كان) يتعين رجوعه إليه، أمَّا الفعل أو المكث؛ فغير مذكور، على أنَّ المسجد أعم وأشمل؛ فافهم، (تحبسه)؛ بالفوقية على الرواية الأولى، وبالتحتية على الثانية، وكلمة (ما) مصدرية معناها المدة؛ والتقدير: مدة دوام حبس الصلاة أو المسجد إياه، وفاعل (تحبسه)؛ بالفوقية: ضمير الصلاة، وبالتحتية: ضمير المسجد؛ فليحفظ.

وزعم القسطلاني: (وحذف الفاعل؛ للعلم به).

قلت: هو غير ظاهر؛ لأنَّ الفاعل الضمير، فلا حذف للفاعل على أنَّه قيل: وجد في نسخة معتمدة التصريح بالفاعل، وعليها؛ ففيه تنازع، وفي بعض الأصول تقديمها على (تحبسه)؛ فافهم.

وقوله: (وتصلي) أي: تدعو؛ (يعني: عليه الملائكة) : معطوف على جواب (إذا)، وسقط لأبوي ذر والوقت لفظ: (يعني)، وكذا لفظ: (عليه) أيضًا لابن عساكر، وثبت عنه في نسخة: (ما دام)؛ أي: المصلي (في مجلسه الذي يصلِّي فيه)؛ أي: ما دام المصلي في المجلس الذي صلى فيه الفريضة الأولى، أو تحيته المسجد، أو السنة القبلية، وهذا ظاهر الحديث.

وقيل: المراد بالمجلس: المسجد؛ والمعنى: ما دام المصلي في مسجده الذي صلى فيه، وهو مخالف للفظ الحديث، ويدل للأول ما ثبت في بعض الروايات: (ما دام في مصلاه)، وهو مكان الصلاة، فهو المجلس الذي قد صلى فيه، قيل: إنَّ الثاني أرحج.

قلت: ليس في الحديث ما يدل على صحته فضلًا عن أرجحيته؛ فافهم.

وقوله: (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) : جملة حالية، بتقدير: قائلين؛ والمعنى: وتدعو له الملائكة قائلين: اللهم؛ لأنَّه لا يصح المعنى إلا بذلك، وقيل: إنَّه بيان للصلاة، فالجملة مستأنفة، انتهى.

قلت: ليست الجملة مستأنفة، بل هي حالية، ويدل عليه تعلقها بما قبلها، كما لا يخفى، وزاد ابن ماجه: (اللهم تب عليه).

وقوله: (ما لم يؤذ) : متعلق بـ (تصلي عليه)، و (ما) ظرفية مصدرية؛ بمعنى المدة؛ أي: مدة عدم الإيذاء، وقال إمامنا الشَّارح: (يؤذ)؛ بِضَمِّ التحتية أوله، وبالذَّال المعجمة، من الإيذاء، والضمير المرفوع الذي فيه يرجع إلى المصلى، ومفعوله محذوف؛ تقديره: ما لم يؤذ الملائكة، وإيذاؤه إياهم: الحدث في المسجد، ولهذا قال: (يُحدثْ فيه)؛ أي: في مجلسه، وهو بِضَمِّ التحتية أوله، من الإحداث؛ بكسر الهمزة، وهو مجزوم في رواية الأكثرين على أنَّه بدل من (يُؤذ)، وفي رواية الكشميهني: (ما لم يؤذ بحدث فيه)؛ بلفظ الجار والمجرور متعلقًا بـ (يؤذ)، وفي رواية أبوي ذر والوقت: (يحدثُ)؛ بالرفع على الاستئناف.

وقال الكرماني: (وفي بعض النُّسخ: «ما لم يحدث»؛ بطرح لفظ: «يؤذ»؛ أي: ما لم ينقض الوضوء، والذي ينقض الوضوء الحدث).

واعترضه ابن حجر، فقال: (يحتمل أن يكون أعم من ذلك).

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (الحديث رواه أبو داود في «سننه»، ولفظه: «مالم يؤذ فيه»؛ والمعنى: ما لم يؤذ في مجلسه الذي صلى فيه أحدًا بقوله أو فعله، أو «يحدثْ»؛ بالجزم من الإحداث؛ بمعنى الحدث، لا من التحديث؛ فافهم، فإنَّه موضع تأمل) انتهى.

قلت: أشار بهذا إلى ما ذكره الكرماني وابن حجر، وكلاهما غير مصيب؛ لأنَّ الكرماني اقتصر على الحدث الناقض للوضوء، وهو ليس بمراد؛ لأنَّ الملائكة تتأذى (١) بغيره أيضًا، وابن حجر أراد الأعم من ذلك، وهو أنَّ معنى: «يحدث» (٢) من التحديث؛ أي: ما لم يتكلم، وهو غير مراد، بل المراد الأعم؛ وهو ما لم يؤذ في مجلسه أحدًا بقوله أو فعله، وهو شامل للبطش باليد واللسان، والحدث شامل لخروج الدم والريح والبول، فالإيذاء شامل لإيذاء الملائكة، والمسجد، والآدميين؛ لأنَّ الملائكة لا ترضى بذلكولا الخالق عز وجل، فلهذا إذا فعل شيئًا مما ذكر؛ تترك الدعاء له وتنصرف، كما لا يخفى؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: الدلالة على فضيلة الجماعة، وفيه: جواز اتخاذ المساجد في البيوت والأسواق).

وقال ابن بطال: (وفيه: أنَّ الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة).

واعترضه الكرماني بأنَّه لم يقل: يساوي صلاته منفردًا خمسًا وعشرين حتى يكون له درجة منها، بل قال: (يزيد)، فليس للمنفرد من الخمس والعشرين شيء.

وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (إنَّما قال ذلك بالنَّظر إلى الرواية المذكورة في الباب، ولو كان وقف على الروايات التي ذكرناها؛ لما قال ذلك كذلك) انتهى.

واعترضه العجلوني بأنَّه على فرض أن إحدى الروايات التي ذكرها تفيد ذلك، لا يرد على الكرماني؛ لأنَّ اعتراضه على قوله: (فيه)؛ أي: في حديث الباب؛ فافهم وأنصف، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه، وأمر بالفهم، ولم يفهم معنى الكلام، وأمر بالإنصاف، ولم ينصف في المرام، فإنَّ إمام الشَّارحين قال: (إنَّما قال ذلك بالنَّظر إلى الرواية المذكورة في الباب، وعذره بأنَّه لم يقف على الروايات التي ذكرها، فهي مسكوت عنها.

والحال أنَّ هذه الروايات توضح وتبين المراد من الحديث المذكور، فإنَّ الأحاديث تفسر بعضها بعضًا، كما لا يخفى، ولا مانع من جعله للمنفرد درجة منها، فإنَّ فضل الله واسع غير محصور، وقد ذكرنا فيما سبق بعض الروايات في ذلك، وأنَّها صريحة فيما قاله، فما زعمه الكرماني والعجلوني غير صحيح)؛ فليحفظ.

على أنَّ حديث الباب مقيد بما في الروايات، فهي صريحة في أنَّ للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة؛ فافهم.

وقال إمام الشَّارحين: (وفيه ما استدل به بعض المالكية على أنَّ صلاة الجماعة لا يفضل بعضها على بعض بكثرة الجماعة، ورُدَّ هذا بما ذكرنا عن ابن حبان: «وما كثر؛ فهو أحب إلى الله تعالى»، وإلى مطلوبيَّةِ الكثرة ذهب الشَّافعي وابن حبيب) انتهى.

واعترضه العجلوني بأن يتأمل اقتصاره عليهما، فإنَّ مطلوبية الكثرة في الجماعة إذا لم يعارضها غيرها؛ يذهب إليه كل أحد على ما لا يخفى، انتهى.

قلت: إنَّما اقتصر عليهما؛ لأنَّه اشتهر عن الشَّافعي أنَّ الكثرة غير مطلوبة، ولا ثواب في الكثرة، ويحتمل اقتصاره عليهما؛ لما يشاهد من الزحام في صف الشَّافعية، فإنَّ الرجل يؤذي جاره بيده وجنبه ورجله، والإيذاء حرام، فأحدهم يظن نفسه أنَّه فعل مندوبًا، والحال أنَّه فعل محرمًا، فذهبا إلى مطلوبية الكثرة وإن كان زحام وضيق مع أنَّ درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.

تتمة: قال إمام الشَّارحين: (اختلفوا في الجمع بين رواية: «بسبع وعشرين درجة»، وبين رواية: «خمس وعشرين»؛ فقيل: السبع متأخرة عن الخمس، فكأنَّ الله أخبره بخمس ثم زاده، ورُدَّ هذا بتعذر التاريخ، وأجيب: بأنَّ الفضائل لا تنسخ، فتعين أنَّه متأخر.

وقيل: إنَّ صلاة الجماعة في المسجد أفضل من صلاة الفذ في المسجد بسبع وعشرين درجة، ورُدَّ هذا بقوله:


(١) في الأصل: (تتأذ)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (بحدث)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>