للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وموافق له، كما لا يخفى.

وعن مالك: أنَّه ما لم ينتقض وضوءه؛ يجوز له ذلك وإن طال الزمن، وكذا روي عن ربيعة مستدلين بحديث عمران.

قلت: هو مخالف للحديث؛ لأنَّه ليس فيه عدم نقض الوضوء، ولا تعرض إليه ولا إشارة إليه، بل الذي فيه أنَّه ما لم يخرج من المسجد؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يخرج منه، وخروجه إلى منزله أو حجرته ليس بمنافٍ؛ لأنَّ منزله من المسجد وفنائه، بدليل صحة الاعتكاف فيه كما قدمناه؛ فافهم.

واستدل بالحديث قوم على أنَّ الكلام في الصلاة من المأمومين لإمامهم إذا كان على وجه إصلاح الصلاة؛ لا يقطع الصلاة، وأنَّ الكلام من الإمام والمأمومين فيها على السَّهو؛ لا يقطع الصلاة، وهو قول مالك، وربيعة، والشَّافعي، وأحمد، وإسحاق.

قال ابن عبد البر: ذهب الشَّافعي إلى أنَّ الكلام والسَّلام ساهيًا في الصلاة لا يبطلها كقول مالك، وإنَّما الخلاف أنَّ مالكًا كان يقول: لا يفسد الصلاة تعمد الكلام فيها إذا كان في شأنها وإصلاحها، وهو قول ربيعة وابن القاسم، وأنَّ الشَّافعي يقول: من تعمد الكلام وهو يعلم أنَّه لم يتم صلاته وأنَّه فيها؛ فسدت صلاته، فإن تكلم ناسيًا أو تكلم وهو يظن أنَّه ليس في الصلاة؛ لا يبطلها.

وقال أحمد ابن حنبل: ما تكلم به الإنسان في صلاته لإصلاحها؛ لم تفسد، فإن تكلم لغير ذلك؛ فسدت، ذكره الأشرم، وقال الخرقي عنه: أنَّ من تكلم عامدًا أو ساهيًا؛ بطلت صلاته إلا الإمام خاصة، فإنَّه إذا تكلم لمصلحة صلاته؛ لم تبطل صلاته.

وأجمع المسلمون على أنَّ الكلام عامدًا في الصلاة إذا كان المصلي يعلم أنَّه في الصلاةولم يكن ذلك في إصلاح صلاته؛ أنَّه يفسد الصلاة إلا ما روي عن الأوزاعي أنَّه قال: من تكلم لإحياء نَفْسٍ أو مثله من الأمور الجسام؛ لا تفسد صلاته بذلك، انتهى.

قلت: وهذا الاستدلال فاسد، ولا سلف ولا خلف لهم في ذلك، والصَّواب من القول ما ذهب إليه الإمام الأعظم رأس المجتهدين وأصحابه والجمهور أنَّ الكلام في الصلاة يبطلها سواء كان ناسيًا أو جاهلًا، لإصلاحها أو لا، كيفما كان، وهو قول سفيان الثَّوري، وإبراهيم النخعي، وعطاء، والحسن البصري، وحمَّاد بن سليمان، وقتادة، وغيرهم.

قال الحارث بن مسكين: (أصحاب مالك كلهم على خلاف قول مالك في مسألة ذي اليدين إلا ابن القاسم وحده؛ فإنَّه يقول بقوله، وأمَّا أصحابه؛ فيأبونه ويقولون: إنَّما كان هذا في صدر الإسلام، فأمَّا الآن؛ فقد عرف الناس صلاتهم، فمن تكلم فيها؛ أعادها، وهو قول العراقيين، والثَّوري، والنخعي، وعطاء، والحسن، وحمَّاد، وقتادة، فإنَّهم ذهبوا إلى أنَّ الكلام في الصلاة يفسدها على أيِّ حال كان، وقالوا: إنَّ حديث أبي هريرة هذا في قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن الأرقم، قالوا: وإن كان أبو هريرة متأخر الإسلام؛ فإنَّه أرسل حديث ذي اليدين، كما أرسل حديث: «من أدركه الفجر جُنبًا؛ فلا صوم له»، وكان كثير الإرسال) انتهى.

قلت: أمَّا حديث ابن مسعود؛ فرواه المؤلف ومسلم في «صحيحيهما» في (المناقب) في باب (هجرة الحبشة) وغيره: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نُسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا عليه، فلم يرد علينا، قلنا: يا رسول الله؛ كنا نسلم عليك في الصلاة، فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي؛ سلمنا، فلم ترد علينا، فقال عليه السَّلام: «إنَّ في الصلاة لشغلًا».

وأمَّا حديث زيد؛ فرواه أبو داود في «سننه» وغيره: عن زيد بن أرقم قال: (كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: ٢٣٨]، فأُمرنا بالسكوت، ونُهينا عن الكلام)، وقال جماعة: معنى قوله تعالى: {قَانِتِينَ} : ساكتين، وهو قول السدي؛ لأنَّ الآية نزلت في المنع عن الكلام في الصلاة، وكان مباحًا في صدر الإسلام.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه كما رواه أصحاب السنن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ الله أحدث من أمره ألَّا تكلموا في الصلاة».

وقال إمام الشَّارحين: والدليل على أنَّ الحديث منسوخ أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما كان عليه السَّلام عمله يوم ذي اليدين، والحال أنَّه كان في من حضر يوم ذي اليدين، فلولا ثبت عنده انتساخ ذلك؛ لما عمل بخلاف ما عمل به النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم.

وأيضًا فإنَّ عمر رضي الله عنه قد فعل ذلك بحضرة الصَّحابةرضي الله عنه، ولم ينكر عليه منهم أحد، فصار ذلك منهم إجماعًا على النَّسخ.

وروى الحافظ الطَّحاوي ذلك عن ابن مرزوق قال: حدثنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود قال: سمعت عطاء يقول: (صلى عمر بن الخطاب بأصحابه، فسلَّم في ركعتين، ثم انصرف، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي جهزت عِيرًا من العراق بأجمالها وأحقابها حتى وَرَدت المدينة، قال: فصلى بهم أربع ركعات) انتهى.

قلت: وكأنَّ المخالف لنا لم يبلغه نزول الآية، ولا حديث ابن مسعود ولا زيد بن الأرقم، ولا صلاة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، وهذا ضرب من الإجماع، بل الإجماع كله؛ لأنَّ الذين أجمعوا على منع الكلام في الصلاة من أصحاب النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفتوا به؛ عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن الأرقم رضي الله عنهم.

ولم يُرْوَ عن أحد من الصَّحابة الذين شهدوا هبوط الوحي والتنزيل وأعيذوا من التحريف والتبديل خلاف هؤلاء الثلاثة بعد نزول الآية لا بإسناد متصل ولا منقطع، فكأنَّ الصَّحابة أجمعوا على أنَّ الكلام في الصلاة يفسدها على كل حال، وبه قال سليمان بن داود، وأبو خيثمة، وابن أبي شيبة، ومحمَّد بن نصر، ومحمَّد بن إسحاق بن خزيمة، ومحمَّد بن إسماعيل، وغيرهم من أهل الحديث، والله تعالى أعلم.

وفي «العجلوني» : (وفيه: أنَّ من تكلم ناسيًا؛ لا تفسد صلاته؛ لأنَّه عليه السَّلام تكلم لظنه أنَّه أكمل الصلاة، وسبيله سبيل الناسي، وأمَّا ذو اليدين؛ فأمره متأول؛ لأنَّ الزمان زمان نسخ، فجرى منه مجرى من هو خارج الصلاة، وأمَّا كلام الشيخين؛ فإنَّه كان واجبًا عليهم إجابته؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: ٢٤]، فلم يقدح في صلاتهم) انتهى.

قلت: وهذا فاسد؛ لأنَّه عليه السَّلام وإن كان ظنه أنَّه أكمل صلاته، فليس سبيله سبيل الناسي، فلا دليل فيه لما ذكر؛ لأنَّ بين الناسي وغيره فرقًا بيِّنًا، ولا عذر للناسي؛ لأنَّ قوله عليه السَّلام: «رُفِع عن أمتي الخطأ والنِّسيان»؛ معناه: رفع إثمهما، على أنَّه قال: «عن أمتي»، ولم يقل: عني، والنِّسيان لا يضر عليه من الله تعالى.

وأمَّا ذو اليدين؛ فعلى ما ذكره؛ صلاته فسدت، فهو تناقض في كلامه، كما لا يخفى.

وأمَّا كلام الشيخين... إلخ؛ فيه نظر، بل هو قادح في صلاتهم؛ لأنَّ الآية إنَّما هي (١) في الدعاء خارج الصلاة لا فيها؛ للقرينة الدَّالة على ذلك؛ لأنَّه (٢) فيها ممنوع منه، كما لا يخفى.

وظاهر الحديث يدل على أنَّ العمل الكثير والخطوات في الصلاة لا تبطلها، واختلف في ذلك، ومذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين أنَّ العمل الكثير يبطل الصلاة، وكذا المشي فيها خطوات.

واختلف أيضًا في العمل الكثير؛ فظاهر الرواية عن الإمام الأعظم: أنَّه مفوض لرأي المصلي، فإن رآه كثيرًا؛ فكثير، وإن قليلًا؛ فقليل، وقيل: إنَّه ما استكثره الناظر، والقليل ما استقله، وقيل: إنَّه ما فعل ثلاث مرات متواليات في ركن واحد، وقد صححه غير واحد، وعلى هذا فالنَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم رأى أنَّ هذا العمل قليل، وأنَّه غير مفسد، ولذلك بنى على صلاته وأتمها، ونقل النَّووي: أنَّ المشهور عن الشَّافعي أنَّ العمل الكثير يبطل الصلاة، وهو ثلاث حركات.

واعترضه الكرماني بأنَّ الذي رجحه في «التحقيق» أنَّها لا تبطل بذلك، واعترضه العجلوني بأنَّه ضعيف، بل الراجح أنَّها تبطل بالعمل الكثير وإن كان ناسيًا، انتهى.

قلت: قد نص الكرماني كلامه وعزاه إلى «التحقيق»، وأنَّه المرجح، وهو كتاب معتمد عندهم، ولعله قول


(١) في الأصل: (هو)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) زيد في الأصل: (في)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>