ما كان عن قصد خطاب، والظَّاهر أنَّ قول الراوي: (فقالوا: نعم)؛ أي: أشاروا برؤوسهم أي نعم، ويدل عليه رواية أبي داود: (فأومؤوا)، فيكون الرواي روى ذلك بالمعنى على أنَّه يحتمل أنَّ الذي تكلم أمره عليه السَّلام بالإعادة بعده، وهو غير بعيد، هذا وسيأتي أنَّ الكلام في الصلاة كان مباحًا ثم مُنِع منها؛ لحديث: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنَّما هي التسبيح وقراءة القرآن»، فهذا كله منسوخ، ويدل له قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: ٢٣٨]، كما سيأتي تحقيقه.
(فتقدم) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم لمكانه الأول أو غيره على القوم، (فصلى ما ترك)؛ أي: الذي تركه من الركعتين (ثم سلَّم)؛ أي: من صلاته؛ لكونها قد تمت، (ثم كبر)؛ أي: لسجود السَّهو، وقول العجلوني؛ أي: للإحرام؛ غير ظاهر كما لا يخفى، (وسجد مثل سجوده) أي: للصلاة (أو أطول) أي: منه، (ثم رفع رأسه)؛ أي: من السُّجود مكبرًا، (ثم كبر)؛ أي: للسجود ثانيًا، وسقط لابن عساكر: (ثم كبر)، (وسجد مثل سجوده) أي: للصلاة (أو أطول)؛ أي: منه، فالسُّجود وقع منه مرتين؛ لأنَّ سجود السَّهو سجدتان، ففيه دليل على الاجتزاء بسجدتين عن السَّهوات؛ لأنَّه عليه السَّلام سها عن الركعتين وتكلم ناسيًا، واقتصر على السجدتين، وفيه دليل على أنَّ سجود السَّهو (١) سجدتان، وفيه: دليل وحجة للإمام الأعظم ومن قال بقوله: إنَّ سجدتي السَّهو (٢) بعد السَّلام، وهو حجة على الشَّافعي في أنها قبل السَّلام، وكأنَّه لم يبلغه هذا الحديث؛ فافهم.
(ثم رفع رأسه وكبَّر)؛ أي: للرفع من السُّجود؛ أي: وسلم، كما سيأتي، وإنَّما فعل هذا؛ لأنَّه قد رجع إلى قول القوم في أنَّه صلى ركعتين، فأتمها، وهو دليل واضح لمذهب الإمام الأعظم في أنَّ الساهي يرجع إلى كلام القوم ويبني على غالب ظنه، وهو المرجح عن مالك.
وزعم الشَّافعية أنَّ الساهي يعمل بيقينه ولا يرجع إلى قول القوم، وهو رواية عن مالك، والحديث حجة عليهم، وأجاب النَّووي: بأنَّه عليه السَّلام سألهم؛ ليتذكر، فلما ذكَّروه؛ تذكر بعلم السَّهو، فبنى عليه لا أنَّه رجع إلى مجرد قولهم، ولو جاز ترك يقين نفسه والرجوع إلى قول غيره؛ لرجع ذو (٣) اليدين حين قال عليه السَّلام: «لم أنس ولم تقصر».
وردَّه إمام الشَّارحين: (بأنَّ هذا ليس بجواب مخلص؛ لأنَّه لا يخلو من الرجوع إليهم سواء كان رجوعه للتذكير أو لغيره، وعدم رجوع ذي اليدين كان لأجل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا لأجل يقين نفسه) انتهى.
قلت: وعلى كل حال فالرجوع إلى قول القوم موجود يدل عليه أنَّه عليه السَّلام سأل القوم عما يقوله ذو اليدين، فحين قالوا: نعم؛ أخذ بقولهم وتقدم وتمم صلاته، فلو كان ذلك لأجل التذكير؛ لكان اقتصر على سؤال ذي اليدين ولم يسأل القوم؛ فافهم.
قال ابن عون: (فربما سألوه)؛ أي: ابن سيرين: هل في الحديث: (ثم سلم؟)؛ يعني: سألوا ابن سيرين: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا السُّجود هل سلم مرة أخرى أو اكتفى بالسَّلام الأول؟ وكلمة (رُبَّ) أصلها للتقليل، وكثر استعمالها في التكثير، ويلحقها كلمة (ما) فتدخل على الجمل، قاله إمام الشَّارحين.
ولم يبين أحد من الشراح السائل له عن ذلك، والظَّاهر أنَّه من دونه من الرواة؛ فافهم.
(فيقول)؛ أي: ابن سيرين، وللأصيلي: (يقول) : (نُبئت)؛ بِضَمِّ النُّون مبنيًّا للمفعول؛ أي: أخبرت (أنَّ عمران بن حُصَين) بضم الحاء المهملة وفتح الصاد (٤) (قال) أي: في روايته: (ثم سلم)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم بعد هذا السُّجود مرة أخرى، وهذا يدل على أنَّ ابن سيرين لم يسمع: (ثم سلم) من عمران.
وقد بيَّن أبو داود في روايته عن ابن سيرين الواسطة بينه وبين عمران، فقال: حدثنا محمَّد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا محمَّد بن عبد الله بن المثنى قال: حدثني الأشعث بن محمَّد بن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن عمه أبي المهلب، عن عمران بن حصين: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلَّم).
ورواية ابن سيرين عن خالد من رواية الأكابر عن الأصاغر، وكذا رواه النسائي، والترمذي وقال: (حسن غريب)، ورواه الطَّحاوي من حديث شعبة عن خالد الحذاء قال: سمعت أبا قلابة يحدِّث عن عمه أبي المهلب عن عمران بن حصين: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظُّهر ثلاث ركعات، ثم سلم وانصرف، فقال له الخِرباق: يا رسول الله؛ إنَّك صليت ثلاثًا، قال: فجاء فصلى ركعة، ثم سلَّم، ثم سجد سجدتين للسهو، ثم سلَّم).
وأبو قلابة: اسمه عبد الله بن زيد الحرمي، واسم عمه أبي المهلب عمرو بن معاوية، قاله النسائي، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية، وقيل: معاوية بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو، وقيل: النَّضر بن عمرو، قاله إمامنا الشَّارح.
قلت: ولا يقدح هذا الاختلاف؛ لأنَّه قد اشتهر بأبي المهلب؛ فافهم.
وفي الحديث: دليل على جواز تشبيك الأصابع في المسجد على ما ترجم عليه الباب.
وفيه دليل على أنَّ من قال ناسيًا: لم أفعل كذا، وكان قد فعله؛ أنَّه غير كاذب.
وفيه: جواز التلقيب الذي سبيله التعريف دون التهجين.
وفي الحديث: دليل على أنَّ الذي عليه السَّهو إذا ذهب من مقامه ثم عاد، وقضى ما عليه؛ أنَّه يصح ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام تقدم فصلى، وفي رواية: (فرجع إلى مقامه)، وفي رواية عمران: (فجاء فصلى ركعة)، وهذا مجمل، وقد فصله الفقهاء رضي الله عنهم:
فذهب الإمام الأعظم رأس المجتهدين أنَّه إذا سلم ساهيًا على الركعتين وهو في مكانه لم يصرف وجهه عن القبلة ولم يتكلم؛ عاد إلى القضاء لما عليه، ولو اقتدى به رجل؛ يصح اقتداؤه، أمَّا إذا صرف وجهه عن القبلة، فإن كان في المسجد ولم يتكلم؛ فكذلك؛ لأنَّ المسجد كله في حكم مكان واحد؛ لأنَّه مكان الصلاة، وإن كان خرج من المسجد ثم تذكر؛ لا يعود إليه، وتفسد صلاته، وأمَّا إذا كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز الصفوف من خلفه أو من قبل اليمين أو اليسار؛ عاد إلى القضاء لما عليه، وإن جاوزها؛ فلا يعود وتفسد صلاته، وإن مشى أمامه، فإن كان مشى قدر الصفوف التي خلفه؛ تفسد صلاته، وإن كان أقل؛ فلا تفسد، وعليه القضاء لما عليه، وهو مروي عن الإمام أبي يوسف؛ اعتبارًا لأحد الجانبين بالآخر، وقيل: إذا جاوز موضع سجوده؛ تفسد صلاته، وإن لم يجاوزه؛ لا تفسد، وعليه قضاء ما تركه، وهو الأصح.
وعند الشَّافعي وجهان؛ أحدهما: أنَّ الذي عليه السَّهو إذا ذهب من مقامه ثم عاد وقضى ما عليه؛ أنَّه يصح؛ لأنَّه ثبت في رواية مسلم: أنَّه عليه السَّلام مشى إلى الجذع وخرج السرعان، وفي رواية: (دخل منزله)، وفي رواية: (دخل الحجرة، ثم خرج ورجع الناس وبنى على صلاته).
والوجه الثاني وهو المشهور عنده: أنَّ الصلاة تبطل بذلك، وقال النَّووي: (وهذا مشكل، وتأويل الحديث صعب على من أبطلها) انتهى.
قلت: وكأنَّه استشكله هو وإمامه، واستصعبا التأويل؛ لأنَّ ما ذكره مخالف للحديث ومصادم له، كما لا يخفى.
أمَّا على مذهب الإمام الأعظم؛ فالأمر ظاهر بلا إشكال؛ لأنَّه صريح الحديث
(١) في الأصل: (السَّهوي).
(٢) في الأصل: (السَّهوي).
(٣) في الأصل: (ذي)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (بفتح المهملتين)، والمثبت موافق لما في المصادر.