هذه الرواية أنَّ بعض الرواة فَهِم من قوله: (صلى بنا) : أنَّه كان حاضرًا وصلى معهم، فروى الحديث بالمعنى على زعمه، وقال: (بينا أنا أصلي)، والرواية بالمعنى جائزة بالشروط، ويحتمل أن يكون المعنى: بينا أنا أريد الصلاة مع النَّبي عليه السَّلام والحال هو لم يدخل في الإسلام بل أراده؛ لما رأى من حسن صلاته عليه السَّلام، فأبو هريرة قد شاهد تلك الصلاة ولم يصلِّ معهم؛ لأنَّه كان كافرًا؛ فافهم.
والحاصل بل الصَّواب: أنَّ ذا اليدين المذكور في هذا الحديث هو ذو الشمالين، فهما لقبان لواحد على الصَّحيح، والله تعالى أعلم.
(قال) وفي رواية: (فقال)؛ أي: الرجل: (يا رسول الله؛ أنَسِيت) بفتح النُّون وكسر السين المهملة المخففة (أم قَصُرت الصلاة؟)؛ بفتح القاف وضم الصَّاد المهملة؛ لأنَّه من باب (فَعُل يَفعُل)؛ بالضم فيهما، فما زعمه العجلوني من أنَّه بفتح القاف وكسر الصَّاد غير ظاهر كما لا يخفى؛ أي: هل خفَّت من الأربع إلى الركعتين في الرُّباعي أم نسيت؟
(قال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم له: (لم أَنْسَ) بفتح الهمزة وسكون النُّون مجزوم بحذف الألف (ولم تُقصر)؛ بِضَمِّ الفوقية أوله مبنيًّا للمفعول؛ أي: الصلاة، وفي رواية مسلم: (كل ذلك لم يكن)، وفي رواية أبي داود: (وكل ذلك لم أفعل)، وزعم النَّووي أنَّ معناه: لم يكن المجموع ولا ينفي أحدهما، والصَّواب: أنَّ معناه: لم يكن لا ذاك ولا ذا في ظني، بل ظني أنِّي أكملت الصلاة أربعًا، ويدل عليه قوله: (لم تُقصر ولم أنس).
ويقال: (لم أنس) : يرجع إلى السَّلام؛ أي: لم أنسه فيهإنَّما سلمت قصدًا، أو لم أنسه في نفس السَّلاموإنَّما سهوت عن العدد.
واعترضه القرطبي بأنَّه فاسد؛ لأنَّه حينئذٍ لا يكون جوابًا عما سئل عنه، ويقال: بين السَّهو والنِّسيان فرق (١).
وقيل: كان عليه السَّلام يسهو ولا ينسى، فلذلك نفى عن نفسه النِّسيان؛ لأنَّ فيه غفلة ولم يغفل، قاله القاضي.
وقال القشيري: (الفرق بين السَّهو والنِّسيان في الاستعمال ظاهر في اللُّغة، وكان يلوح من اللَّفظ أنَّ النِّسيان: عدم الذكر لأمر لا يتعلق بالصلاة، والسَّهو: عدم الذكر لأمر يتعلق بها، ويكون النِّسيان: الإعراض عن تفقد أمورها حتى يحصل عدم الذكر، والسَّهو: عدم الذكر لا لأجل الإعراض).
واعترضه القرطبي بأنَّا لا نسلم الفرق، ولئن سلم؛ فقد أضاف عليه السَّلام النِّسيان إلى نفسه في غير ما موضع بقوله: «إنَّما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني».
وقال القاضي عياض: إنَّما أنكر عليه السَّلام (نسيتُ) المضافة إلى نفسه، وهو قد نهى عن هذا بقوله: «بئسما لأحدكم أن يقول: نسيت كذا، ولكنه نُسِّي»، وقال أيضًا: «لا أنسى» على النَّفي «ولكن أُنَسَّى»، وقد شك بعض الرواة، فقال: (أنسى أو أُنسَّى)، وأن (أو) للشك أو للتقسيم، وأنَّ هذا يكون منه مرة من قبل شغله، ومرة يغلب ويجبر عليه، فلما سأله السائل بذلك؛ أنكره وقال: «كل ذلك لم يكن»، وفي الأخرى: «لم أنس ولم تقصر»، أمَّا القصر؛ فبيِّن، وكذلك لم أنس حقيقة من قبل نفسي ولكنَّ الله أنساني.
قال إمام الشَّارحين: (ويمكن أن يجاب عما قاله القاضي: أنَّ النَّهي في الحديث عن إضافة «نسيت» إلى الآية الكريمة؛ لأنَّه يقبح للمؤمن أن يضيف إلى نفسه نسيان كلام الله تعالى، ولا يلزم من هذا النَّهي الخاص النَّهي عن إضافته إلى كل شيء)؛ فافهم.
وقال إمام الشَّارحين: (تحقيق الكلام في هذا المقام أنَّ قوله: «لم أنس ولم تقصر» مثل قوله: «كل ذلك لم يكن»؛ والمعنى: كل من القصر والنِّسيان لم يكن، فيكون في معنى: لا شيء منهما بكائن على شمول النَّفي وعمومه؛ لوجهين:
أحدهما: أنَّ السؤال عن أحد الأمرين بـ «أم» يكون لطلب التَّعيين بعد ثبوت أحدهما عند التكلم لا على التَّعيين، غير أنَّه إمَّا بالتَّعيين أو بنفيهما جميعًا تخطئة للمستفهم، لا بنفي الجمع بينهما حتى يكون نفي العموم؛ لأنَّه عارف بأنَّ الكائن أحدهما.
والثاني: لما قال عليه السَّلام: «كل ذلك لم يكن»؛ قال له ذو اليدين: «قد كان بعض ذلك»، ومعلوم أنَّ الثبوت للبعض إنَّما ينافي النَّفي عن كل فرد لا النَّفي عن المجموع، وقوله: «قد كان بعض ذلك» موجبة جزئية، ونقيضها السالبة الكلية، ولولا أنَّ ذا اليدين فهم السلب الكلي؛ لما ذكر في مقابلته الإيجاب الجزئي.
وههنا قاعدة أخرى: وهي أنَّ لفظة «كل» إذا وقعت في حيز النَّفي؛ كان النَّفي يوجبها خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد؛ كقولك: ما جاء كل القوم ولم آخذ كل الدراهم، وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه....
وإن وقع النَّفي في حيزها؛ اقتضى السلب عن كل فرد؛ كقوله عليه السَّلام: «كل ذلك لم يكن») انتهى كلام إمام الشَّارحين.
وهو الصَّواب الموافق للخطاب؛ فافهم، وكل ما قاله هؤلاء خارج عن المقام، وبعيد عن الأفهام إلا إمامنا الشَّارح، فإنَّه قد فهم موقع الخطاب، وتكلم بالصَّواب، فلله دره من إمام.
وقال الخطابي: («لم أنس ولم تقصر» : يتضمن أمرين: أحدهما: حكم في الدين، وهو لم تقصر -عصمه الله من الغلط فيه-؛ لئلا يعرض في أمر الدين إشكال، والآخر: حكاية عن فعل نفسه وقد جرى الخطأ فيه؛ إذ كان غير معصوم مما يدفع إليه البشر من الخطأ والنِّسيان، والأمر موضوع عن الناسي، وتلافي الأمر في المنسي سهل غير متعذر) انتهى.
قال العجلوني: (ومقتضاه: أنَّه «لم أنس» كذب، لكن محذور فيه، والأنزه أن يقال: لم أنس بحسب ظني فلا كذب؛ لأنَّ الظن هو الواقع والخبر مطابق له، فهو صدق) انتهى.
قلت: وهذا كله خارج عن المقام ولا يليق بهذا النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه وإن كان يجوز عليه الخطأ والنِّسيان لكن لا يقر عليه، بل يأتيه الوحي على الصَّواب، والأمر موضوع عن الناسي بالنسبة للأمة؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنِّسيان...»؛ الحديث؛ أي: رفع إثم ذلك، أمَّا هو عليه السَّلام؛ فليس كذلك؛ لأنَّه وإن وقع منه، لكن لا يقره الله عليه، بل يوحي إليه بخلافه، ومع هذا فهو عليه السَّلام لم يقع في ظنه الخطأ والنِّسيان؛ لقوله: «كل ذلك لم يكن»، فإخباره عليه السَّلام كان موافقًا للواقع في ظنه، لكن لما كان الأمر على خلافه؛ يوهم أنَّه خطأ ونسيان بحسب الواقع، وهو لا يوصف بأنَّه كذب؛ لأنَّه كان على غير قصد، والكذب: ما أخبر به عن قصد على خلاف الواقع، ومن الواجب الاعتقاد بأنَّه عليه السَّلام معصوم من الكذب ألبتة، فما زعمه الخطابي والعجلوني غير صواب، كما لا يخفى على أولي الألباب؛ فافهم.
ولهذا قال ابن حجر: (إنَّ العصمة ثابتة في الإخبار عن الله تعالى، وأمَّا إخباره عن الأمور الوجودية؛ فيجوز فيها النِّسيان) انتهى.
قلت: يعني: لكنَّه لا يقر عليه لوقوع الغلط في أمور الدين وهو محال؛ فليحفظ.
(فقال) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم للقوم الحاضرين: (أكما)؛ بهمزة الاستفهام؛ أي: هل الأمر واقع كما (يقول ذو اليدين)؛ أي: من أنَّي صليت ركعتين في الفرض الرُّباعي؛ وهي صلاة القصر، ولهذا قال: أقصرت؟ (فقالوا) أي: القوم: (نعم)؛ أي: الأمر كما يقول، وفي رواية للبخاري: (فقال الناس: نعم)، وفي رواية أبي داود: (فأومؤوا أي نعم).
قال إمام الشَّارحين: (ويمكن الجمع بينهما بأنَّ بعضهم أومأ وبعضهم تكلم.
فإن قلت: كيف تكلم ذو اليدين والقوم وهم في الصلاة؟
قلت: لأنَّهم لم يكونوا على اليقين من البقاء في الصلاة؛ لأنَّهم كانوا مجوزين نسخ الصلاة من أربع إلى ركعتين، وفي رواية لأبي داود بإسناد صحيح: «أنَّ الجماعة أومؤوا -أي: أشاروا- أي نعم»، فعلى هذه الرواية لم يتكلموا) انتهى.
وقال النَّووي: (هذا كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم وجوابًا، وذلك لا يبطل عندنا ولا عند غيرنا) انتهى.
قلت: هذا بعيد عن النَّظر؛ لأنَّه ولو كان خطابًا فهو مبطل، بل إنَّما المبطل
(١) في الأصل: (فرقًا)، وليس بصحيح.