للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

من خزاعة؛ بدليل رواية أبي هريرة حديث ذي اليدين ومشاهدته خبره، ولقوله: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم...)، وذكر الحديث، وإسلام أبي هريرة بخيبر [بعد] يوم بدر بسنين (١)، فهو غير ذي الشمالين المستشهد ببدر، وقد عدوا قول الزهري فيه هذا من الوهم، وقد عدها بعضهم حديثين في نازلتين، وهو الصَّحيح ولاختلاف صفتهما؛ لأنَّ في حديث الخِرباق ذي الشمالين: أنَّه سلَّم من ثلاث، وفي حديث ذي اليدين: من اثنتين، وفي حديث الخِرباق: أنَّها العصر، وفي حديث ذي اليدين: أنَّها الظُّهر بغير شك عند بعضهم، وقد ذكر مسلم ذلك كله، انتهى، وتبعه أبو عمر (٢) بن عبد البر تعصبًا.

وردَّ ذلك كله إمام الشَّارحين حيث قال: قلت: الجواب عن ذلك كله مع تحرير الكلام في هذا الموضع: أنَّه وقع في كتاب «النسائي» : أنَّ ذا اليدين وذا الشمالين واحد كلاهما لقب على الخِرباق، كما ذكرنا، حيث قال: أخبرنا محمَّد بن رافع: حدَّثنا عبد الرزاق: حدَّثنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، عن أبي هريرة قال: (صلى النَّبي صلى الله عليه وسلم الظُّهر أو العصر، فسلم من ركعتين فانصرف، فقال له ذو الشمالين بن عمرو: أنقصت الصلاة أم نسيت؟ قال: «ما يقول ذو اليدين؟!»، قالوا: صدق يا رسول الله، فأتمَّ بهم الركعتين اللتين نقصتا)، وهذا سند صحيح متصل، صرح فيه بأنَّ ذا الشمالين هو ذو اليدين.

وقال النسائي أيضًا: حدثنا هارون بن موسى الفروي: حدثني أبو ضمرة، عن يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: (نسي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلَّم في سجدتيه، فقال ذو الشمالين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: «أصدق ذو اليدين؟»، قالوا: نعم، فقام فأتمَّ الصلاة)، وهذا أيضًا سند صحيح، صرح فيه أيضًا أنَّ ذا الشمالين هو ذو اليدين، وقد تابع الزهري على ذلك عمران بن أبي أنس وغيره.

وقال النسائي أيضًا: حدثنا عيسى بن حماد: حدثنا اللَّيث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يومًا فسلَّم في ركعتين ثم انصرف، فأدركه ذو الشمالين فقال: يا رسول الله؛ أنقصت الصلاة أم نسيت؟ فقال: «لم تنقص الصلاة ولم أنس»، قال: بلى والذي بعثك بالحق، قال رسول الله: «أصدق ذو اليدين؟» قالوا: نعم، وصلى بالناس ركعتين)، وهذا أيضًا سند صحيح على شرط مسلم.

وأخرج نحوه الإمام الطَّحاوي عن ربيع المؤذن، عن شعيب بن اللَّيث، عن اللَّيث، عن يزيد بن أبي حبيب... إلى آخره.

وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في «مصنفه»؛ فثبت بهذا أنَّ الزهري لم ينفرد بذلك، وأنَّ المخاطب للنبي صلى الله عليه وسلم ذو الشمالين، وأنَّ من قال ذلك لم يهم، ولا يلزم من عدم تخريج ذلك في «الصَّحيحين» عدم صحته، فثبت أنَّ ذا اليدين وذا الشمالين واحد، كلاهما لقب على الخِرباق، وهذا أولى من جعله رجلين؛ لأنَّه خلاف الأصل في هذا الموضع.

فإن قلت: أخرج البيهقي حديثًا واستدل به على بقاء ذي اليدين بعد النَّبي عليه السَّلام، فزعم أنَّ الذي قُتِل ببدر هو ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة حليف بني زهرة من خزاعة، وأمَّا ذو اليدين الذي أخبر بسهوه عليه السَّلام؛ فإنَّه بقي بعده عليه السَّلام، كذا ذكره شيخنا أبو عبد الله، ثم خرج عنه بسنده إلى معدي بن سليمان، قال: حدثني شعيث (٣) بن مطير عن أبيه ومطير حاضروصدقه، قال شعيث: يا أبتاه؛ أخبرتني أنَّ ذا اليدين لقيك بذي خشب فأخبرك: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم... ؛ الحديث، ثم قال البيهقي: (وقال بعض الرواة في حديث أبي هريرة: «فقال ذو الشمالين: يا رسول الله؛ أقصرت الصلاة؟»، وكان شيخنا أبو عبد الله يقول: كل من قال ذلك؛ فقد أخطأ، فإنَّ ذا الشمالين تقدم موته ولم يعقب، وليس له راوٍ).

قلت: هذا سنده ضعيف؛ لأنَّ فيه معدي بن سليمان، وقال أبو زرعة: (هو واهي الحديث)، وقال النسائي: (ضعيف الحديث)، وقال أبو حاتم: (يحدِّث عن ابن عجلان مناكير)، وقال أبو حيان: (يروي المقلوبات عن الثقات، والملزوقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد).

وفي سنده أيضًا شعيث، وهو لم يعرف حاله، فهو مجهول، ووالده (٤) مطير قال فيه ابن الجارود: لم يكتب حديثه، وذكره الذهبي في «الضعفاء»، وقال: (لم يصح حديثه)، وفي «الكاشف» : مطير بن سليم عن ذي الزوائد، وعنه ابناه شعيث وسليم، لم يصح حديثه، ولضعف هذا السند قال البيهقي في «المعرفة» : (ذو اليدين بقي بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما يقال)، ولقد أنصف في هذه العبارة.

ثم إنَّ قول شيخه أبي عبد الله: (كل من قال ذلك؛ فقد أخطأ) : خطأ وغير صحيح، روى مالك في «موطئه» عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان، عن أبي خيثمة: بلغني أنَّه عليه السَّلام ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار؛ الظُّهر أو العصر، فسلَّم من اثنتين، فقال له ذو الشمالين -رجل من بني زهرة بن كلاب-: أقصرت الصلاة؟ ... ؛ الحديث، وفي آخره: مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن... ؛ بمثل ذلك، فقد صرح في هذه الرواية: أنَّه ذو الشمالين، لا يقال: إنَّه مرسل؛ لأنَّا نقول: ذكر أبو عمر (٥) في «التَّمهيد» أنَّه متصل من وجوه صحاح، والدليل عليه ما ذكرناه مما روى النسائي آنفًا.

وقول الحاكم عن ذي الشمالين: (لم يعقب) يفهم من ظاهره أنَّ ذا اليدين أعقب، ولا أصل لذلك كما قاله الحفاظ.

فإن قلت: إنَّ ذا اليدين وذا الشمالين إذا كانا لقبًا على شخص واحد على ما جزمتم به؛ فهو يدل على أنَّ أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة؛ لأنَّ ذا اليدين الذي هو ذو الشمالين قتل ببدر وأبو هريرة أسلم عام خيبر وهو متأخر بزمان كثير، ومع هذا فأبو هريرة يقول: (صلى بنا رسول الله...)؛ الحديث، وفيه: (فقام ذو اليدين، فقال: يا رسول الله)، أخرجه مسلم وغيره، وفي رواية: (صلى لنا رسول الله...)؛ الحديث.

قلت: أجاب الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي: بأنَّ معناه: صلى بالمسلمين وهو ليس منهم، وهذا جائز في اللُّغة كما روي عن النزال بن سبرة قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف...»؛ الحديث، والنزال لم ير (٦) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّما أراد بذلك: قال لقومنا، وروي عن طاووس قال: قدم علينا معاذ بن جبل، فلم يأخذ من الخضراوات شيئًا، وإنَّما أراد: قدم بلدنا؛ لأنَّ معاذًا قدم اليمن من عهده عليه السَّلام قبل أن يولد طاووس، ومثله ما ذكره البيهقي: أنَّ النَّهي مخصوص ببعض الأمكنة عن مجاهد قال: (جاءنا أبو ذر...) إلى آخره، قال البيهقي: مجاهد لم يثبت له سماع من أبي ذر، وقوله: (جاءنا)؛ أي: جاء بلدنا؛ فافهم، انتهى كلام إمام الشَّارحين.

قلت: وعلى هذا فأبو هريرة كان حاضرًا تلك الصلاة، ولم يكن وقتئذٍ مسلمًا، وإطلاق قوله: (صلى لنا) أو (بنا) على قومه وغيرهم دونه شائع في كلام الله تعالى ورسوله عليه السَّلام وهو معروف في اللُّغة، كما لا يخفى.

وقال القرطبي: (لا يجوز أن يقال: «صلى بنا» وهو كافر ليس من أهل الصلاة، ويكون ذلك كذبًا) انتهى.

قلت: ممنوع، فإنَّه إن أراد غير جائز في اللُّغة، فما قدمنا صريح في الرد عليه، وأنَّه جائز، وإن أراد في غيرها؛ فجائز أيضًا، فإنَّ المجاز في الكلام لم ينكره أحد من أولي الألباب، ولا مانع من كونه كان كافرًا؛ لأنَّه لعله قد اهتدى بتلك الصلاة وأسلم بعدها.

وكونه كذبًا لعله كان جائزًا في دينهم؛ لأنَّ الإخبار به صحيح، وأراد به: قومه لا نفسه، فإنَّ الكفار لا يبالون بالكذب؛ لأنَّه غير حرام عندهم، فما زعمه هذا باطل.

فإن قلت: روي في بعض روايات «مسلم» : أنَّ أبا هريرة قال في قصة ذي اليدين: (بينا أنا أصلي مع النَّبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا صريح في أنَّه حضر تلك الصلاة وكان مسلمًا.

قلت: الروايات المشهورة: (صلى لنا) أو (بنا)، فيحتمل على


(١) في الأصل: (بسنتين)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
(٣) في الأصل: (شعيب)، وهو تصحيف، وكذا في المواضع اللاحقة.
(٤) في الأصل: (وولده)، وليس بصحيح.
(٥) في الأصل: (عمرو)، وليس بصحيح.
(٦) في الأصل: (يرد)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>