المتدافع أصحابا، وكالمشط المطرد اصطحابا، والأرض ترجل برجلهم لما ترفعه الحوافر من غيومها، والسماء تنزل نزولهم لما تضعه الذوابل من نجومها، فما انتشرت رياضها المزهرة، وغياضها المشجرة، إلا دلت على أن السحاب الذى سقاهم كريم، والإنعام الذى غمرهم عظيم، والدنيا التي وسعتهم من عزمتهم تظعن وتقيم.
ولما علم العدو أن الخطب المظنون قد صرح خطابه، والأمل المخدوع قد صفر وطابه، راسل ورأى سل السيوف يغمده، وماكر وماكّر لعلمه أن الحتف يعمده، واندفع هاربا هائبا، وخضع كائبا كاذبا، فمضى المملوك قدما، وحمّله ظلمه وقد خاب من حمل ظلما، وأجابه بأنه وطئ البساط برجله وإلا وطئه برأسه، وإن قدم على المملوك بأمله وإلا أقدمه بيأسه، وإن لم يظهر أثر التوبة وإلا أقام عليه الحد بسكرة الموت من كأسه، فلم يخرج من مراوغة تحتها مغاوره، ومكاسرة وراءها مكاشرة.
فاستخار الله في طلبه، وانتهز فيه فرصة شغل قلبه بريبة، ولم يغره ما أملى له في البلاد من تقلّبه، وسار ولم يزل مقتحما، وتقدم أول العسكر محتدما، وإذا الدار قد ترحل أهلها منها فبانوا وظعنوا عن ساحتها فكأنهم ما كانوا، ولم يبق إلا مواقد نيران رحلت قلوبهم بضرامها، وأثافى دهم أعجلت المهابة ما رد سغبهم عن طعامها، وغربان بيّن كأنها في الديار ما قطع من رءوس بنى حامها، وعوافى طير كانت تنتظر من أشلائهم فطر صيامها، وعادت الرسل المنفذة لاقتفاء آثارهم وأداء أخبارهم، ذاكرة أنهم لبسوا الليل حدادا على النعمة التي خلعت، وغسلوا بماء الصبح أطماع نفس كانت قد تطلعت، وأنهم طلعوا الأوعار أوعالا والعقاب عقبانا، وكانوا لمهابط الأودية سيولا، ولأعالى الشجر قضيانا - فرأى المملوك أن الكتاب فيهم قد بلغ أجله، والحزم منهم قد نال أمله، والفتك بهم قد أعمل متصله، وأن سيوف عساكر أمير المؤمنين منزهة أن تريق الإدماء