ألف فارس وراجل، وحصروها شهرين يباكرونها ويراوحونها ويماسونها ويصابحونها القتال الذى يصلبه الصليب، والقراع الذى ينادى به الموت من مكان قريب، ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونضابر الضدين المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره وأيدنا بنصره، وخابت المطامع من المصريين والفرنج، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد فأخرجناهم من القاهرة تارة بالأوامر المرهقة لهم، وتارة بالأمور الفاضحة منهم، وطورا بالسيوف المجردة، وبالنار المحرقة، حتى بقى القصر ومن به من خدم ومن ذرية قد تفرقت شيعه، وتمزقت بدعه، وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته.
فهنالك تمّ لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة، والرفع للواء الأسود الأعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر بهلاكه وفنائه، وبرأنا من عهدة يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه، لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته.
ولما خلا ذرعنا ورحب وسعنا، نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها برا وبحرا، مركبا وظهرا، إلى أن أوسعناهم قتلا وأسرا، وملكنا رقابهم قهرا وقسرا، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها منذ أخذت من أيديهم، ولا أوجفت عليها خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاديهم، فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة، كان العدو قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فساء منه خلقا، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقا، فكادت القبلة أن يستولى على أصلها، ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام أن يقوم به من ناره غير برد وسلام، ومضجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتطرقه من لا يدين بما جاءبه من الإسلام، فأخذت هذه القلعة، وصارت معقلا للجهاد، وموئلا لسفار البلاد، وغيرهم من عباد العباد ".