للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وزعم العجلوني، فقال: (قد أدرك هذه النكتة هذا القائل؛ لأنَّه قال: ففيه مبالغة، لكنه داعي المقام، فرجح التعريف لذلك).

قلت: وترجيحه التعريف دليل على عدم إدراكه هذه النكتة، لأنه قال: (ففيه مبالغة)، على أنَّ المقام يقتضي التنكير والعموم، وترجيحه التعريف ترجيح بلا مرجح، بدليل قوله عليه السَّلام حين رأى أبا جهل: «هذا فرعون هذه الأمة»، والأمة: جميع المخلوقات، فهي أمة الدعوة، فكأنه عليه السَّلام قال: هذا فرعون جميع المخلوقات، فاقتضى ذلك التنكير لا التعريف، وترجح التنكير على التعريف، كما لا يخفى، وبهذا ظهر فساد ما زعمه العجلوني؛ فافهم.

وأشقى القوم: هو عُقْبَة بن أبي مُعَيط؛ بضمِّ الميم، وفتح العين المهملة، كما سماه شعبة عند مسلم، وكذا الإسماعيلي، ورواه أبو داود في «مسنده» بلفظ: (فجاء عُقْبَة بن أبي معيط فقذفه على ظهره)، وقال الداودي: (إنه أبو جهل)، كما نقله عنه صاحب «عمدة القاري» وغيره، وعلى هذا؛ فكونه أشقاهم ظاهر، والصحيح: الأول، ولهذا اقتصر عليه أكثر الشراح، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشدُّ كفرًا منه وإيذاءً لرسول الله عليه السَّلام؛ لأنَّه مع مشاركتهم في الكفر انفرد بالمباشرة فكان أشقاهم، ولهذا قتلوا في الحرب، وقتل هو صبرًا، كما سيأتي؛ فافهم.

(فجاء)؛ أي: أتى أشقى القوم (به) أي: بسلى الجزور، (فنظر) أي: فانتظر (حتى إذا سجد النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) في صلاته؛ (وضعه على ظهره) الشريف (بين كتفيه) وكأنَّه وقف خلف ظهره، فلم يدر إلا وهو وضعه، وقوله: (وأنا أنظر) : جملة محلها نصب على الحال؛ أي: قال عبد الله: وأنا أشاهد تلك الحالة (لا أغني) أي: في كفِّ شرِّهم (شيئًا)، وفي رواية: (لا أغيِّر)؛ أي: من فعلهم شيئًا، (لو كان) وفي رواية: (لو كانت) (لي منَعة)؛ بفتح النُّون، وحُكي إسكانها.

قال النووي: (وهو شاذٌّ ضعيف).

وردَّه في «عمدة القاري» فقال: (قلت: يردُّ عليه ما ذكره في كتاب «المحكم» : المَنعة والمُنعة والمِنعة، وقال يعقوب في «الألفاظ» : منعة ومنعة، وقال القزاز: فلان في منعة من قومه، ومنعة؛ أي: عزٍّ، وفي كتاب ابن القوطية وابن طريف: منع الحصن مناعًا، ومنعة: لم يرم، وفي «الغريبين (١)» : فلان في منعة؛ أي: في تمنِّع على من رامه، وفلان في منعة؛ أي: في قوم يمنعونه من الأعداء) انتهى كلامه.

وقال القرطبي: المنْعة؛ بسكون النُّون، وروي بفتحها على أنَّه جمع: مانع، ورجَّح القزاز والهروي الإسكان في المفرد، وعكس ابن السكيت، وحاصل ما حكاه في «المحكم» ثلاث لغات: فتح النُّون، وإسكانها، والثالث: كسر الميم وإسكان النُّون، ولا ريب أن هذا يردُّ على النووي فيما ادَّعاه.

وزعم العجلوني أنَّه لا يردُّ عليه؛ لأنَّ حكايته لغات فيها لا ينافي أنَّ بعضها شاذ.

قلت: وهو فاسد، فإن هؤلاء الأئمَّة من أهل اللغة كلهم صرَّحوا بعدم الشذوذ، فدعوى الشذوذ باطلة، فلو كان فيه شذوذ؛ لصرَّحوا به، وحكايته اللغات فيها من غير تصريح بالشاذِّ من غيره ينافي ذلك قطعًا، فزعم هذا الزاعم فاسد؛ فليحفظ، والله أعلم.

وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه لم يكن له بمكة عشيرة؛ لكونه هُذَليًّا حليفًا، وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا، وجواب (لو) محذوف؛ أي: لطرحته عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وصرَّح به مسلم، أو لكففت شرَّهم، أو (لو) للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، وللبزار: (وأنا أرهب منهم).

(قال) أي: ابن مسعود: (فجعلوا) أي: أبو جهل وأصحابه (يضحكون)؛ أي: استهزاءً قاتلهم الله تعالى، وفي رواية: (حتى مال بعضهم على بعض من الضحك)، (ويُحِيل)؛ بضمِّ التحتية، وكسر الحاء المهملة (بعضهم على بعض)؛ أي: ينسب فعل ذلك بعضهم إلى بعض باللفظ أو بالإشارة تهكُّمًا واستهزاءً، قال في «عمدة القاري» : من قولك: أحلت الغريم؛ إذا جعلت له أن يتقاضى المال من غيرك، وجاء حال وأحال أيضًا؛ بمعنى: وثب، وفي الحديث: (أن أهل خيبر أحالوا إلى الحصن)؛ أي: وثبوا إليه، وفي رواية مسلم من رواية زكريا: (ويميل)؛ بالميم بدل (ويحيل)؛ أي: من كثرة الضحك، وفي (الصَّلاة) عند المؤلف: (حتى مال بعضهم على بعض) انتهى.

قلت: ومقتضى ما في «عمدة القاري» وتبعه ابن حجر والشرَّاح: أنَّ (ويميل) ليس في روايةٍ للمؤلف.

وزعم العجلوني أنه رأى نسخة صحيحة من «البخاري» : (ويميل) انتهى.

قلت: والله أعلم بصحة هذه النسخة التي رآها، ولعلَّها نسخة طبع الأعجام الشيعة الذين دأبهم التحريف في الكتب الشرعية والحديثية حتى يوقعوا أهل السنة والجماعة في الخطأ والغفلة، والله أعلم.

(ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) : مبتدأ، وقوله: (ساجد) خبره، والجملة: محلها نصب على الحال (لا يرفع رأسه) الشريف؛ أي: من السجود، بل أبطأ (حتى جاءته) ولأبي ذر: (حتى جاءت) (فاطمة)؛ أي: ابنته عليه السَّلام، ورضي عنها، قال في «عمدة القاري» : (أنكحها رسول الله عليه السَّلام علي بن أبي طالب بعد وقعة أحد، وسنُّها يومئذٍ خمسة عشر سنة وخمسة أشهر، روي لها عن رسول الله عليه السَّلام ثمانية عشر حديثًا، وفي «الصحيحين» لها حديث واحد، روت عنها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، توفيت بعد رسول الله عليه السَّلام بستة أشهر بالمدينة، وقيل: بمئة يوم، وقيل غير ذلك، يوم الثُّلاث لثلاث خلت من رمضان، وغسَّلها علي رضي الله عنه، وصلَّى عليها، ودفنت ليلًا، ودفنها بوصيتها له في ذلك، وفضائلها كثيرة لا تحصى، وكفى بها شرفًا كونها بضعة من رسول الله عليه السَّلام)، ثم قال في «عمدة القاري» : (زاد إسرائيل: وهي جويرية، فأقبلت تسعى، وثبت النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ساجدًا)، (فطرحته)؛ أي: ما وضعه أشقى القوم من سلى الجزور، وللكشميهني: (فطرحت)؛ بحذف الضمير المنصوب (عن ظهره) الشريف، زاد إسرائيل: (فأقبلت عليهم تسبهم)، وزاد البزار: (فلم يردوا عليها شيئًا).

قلت: ففيه: قوَّة نفس فاطمة الزهراء من صغرها؛ لشرفها في نفسها وقوَّتها؛ لكونها صرَّحت بشتمهم وهم من رؤساء قريش، فلم يردُّوا عليها خوفًا من أن تطرحه عليهم؛ لشدَّة تغيُّظها من هذا الفعل القبيح قاتلهم الله تعالى، وهذا الفعل هو بعض من أفعال جماعة عظمة الكلب العقور المملوءة من المكر والخداع والفجور، كما بيَّنت ذلك في كتابي المسمَّى «إنجاء الغريق المخزون فيما يقوله صاحب الهمِّ والغمِّ المحزون».

(فرفع) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (رأسه) الشريف؛ أي: من السجود، زاد البزار من رواية زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق: (فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد؛ اللهم عليك...»)؛ الحديث، قال البزار: تفرَّد بقوله: (أما بعد) زيدٌ، قاله في «عمدة القاري»، (ثم قال) ولابن عساكر: (وقال)؛ بإبدال (ثم) بـ (الواو)، قال في «عمدة القاري» : وكلمة (ثم) تشعر بمهلة بين الرفع والدعاء، وفي رواية الأجلح عند البزار: (فرفع رأسه، كما كان يرفعه عند تمام سجوده، فلما قضى صلاته؛ قال: «اللهم»)، ولمسلم والنسائي نحوه، والظاهر من ذلك: أن دعاءه وقع خارج الصَّلاة، لكنَّه وقع وهو مستقبل القبلة، كما ثبت من رواية زهير عن أبي إسحاق عند البخاري ومسلم، انتهى.

واعترضه العجلوني فزعم أن قوله: (والظاهر...) إلخ يدلُّ على أنَّه لم يقف على هذه الرواية، بل غفل عنها؛ لذكره لها، انتهى.

قلت: وهو كلام فاسد؛ لأنَّه ظاهر التناقض، فإن [بين] قوله: (لم يقف عليها وغفل عنها)، وقوله: (لذكره لها) تناقض، والحقُّ أنَّه لم يغفل عنها، وقد وقف عليها كما علمت من سياق كلامه،


(١) في الأصل: (الغربيين)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>