وحين كان صاحب «عمدة القاري» يؤلِّف ويدرِّس ويلقي العلوم إلى العلماء كان العجلوني منيًّا في ظهر أجداده خلف البقر في عجلون، فكيف يقول: (لم يقف) و (غفل)؟! بل قوله: (والظاهر...) إلخ؛ منشأ الاستظهار من أن قوله عليه السَّلام كان بعد تمام الصَّلاة، وخارجها من رواية المؤلف هنا، ثم ساق الرواية الدَّالة على ذلك كما علمت؛ فافهم، والله تعالى أعلم.
(اللهمَّ؛ عليك بقريش)؛ أي: بهلاكهم، والمراد: الكفار منهم، أو من سمَّى منهم؛ وهم أبو جهل وأصحابه، فهو عامٌّ أريد به الخصوص بقرينة القصة، كذا أفاده صاحب «عمدة القاري»، فلا يرِدُ ما يقال: كيف جاز الدعاء على كلِّ قريش وبعضهم كانوا يومئذٍ مسلمين كالصديق وغيره؟ وأما الجواب: بأنَّه لا عموم للَّفظ، ففيه أن لفظ (قريش) موضوع لهذه القبيلة عمومًا؛ فتأمل (ثلاث مرات) متعلق بـ (قال)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم عليه السَّلام: «اللهم؛ عليك بقريش» ثلاثًا، قال في «عمدة القاري» : (كرَّره إسرائيل في روايته لفظًا لا عددًا، وزاد مسلم في رواية زكريا: (وكان إذا دعا؛ دعا ثلاثًا، وإذا سأل؛ سأل ثلاثًا) انتهى، ثم قال: وفيه: حلمه عليه السَّلام عمَّن آذاه، ففي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث: أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لم أره دعا عليهم إلا يومئذٍ، وإنما استحقوا الدعاء حينئذٍ؛ لما قدموا عليه من التهكُّم به حال عبادته لربه سبحانه وتعالى)، (فشقَّ ذلك) أي: الدعاء (عليهم)؛ أي: على أبي جهل وأصحابه، وفي رواية إسقاط لفظ: (ذلك) فقط، وعليها شرح إمام الشارحين بدر الدين العيني، وتبعه القسطلاني، وقوله: (إذْ دعا عليهم)؛ بسكون الذال بمعنى: حين، متعلق بـ (شقَّ)، وعند مسلم من رواية زكريا: (فلمَّا سمعوا صوته؛ ذهب عنهم الضَّحك، وخافوا دعوته)، ففيه: معرفة الكفار صدق النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لخوفهم من دعائه، ولكنْ لأجل شقائهم الأزلي حملهم الحسد والعناد على ترك الانقياد له عليه السَّلام، وفيه: جواز الدعاء على الظالم، لكنْ قال بعضهم: محلُّه ما إذا كان كافرًا، فأمَّا المسلم؛ فيستحبُّ الاستغفار له، والدعاء له بالتوبة، كذا في «عمدة القاري».
وزعم ابن حجر أنَّه لو قيل: لا دلالة فيه على الدعاء على الكافر لما كان بعيدًا؛ لاحتمال أن يكون عليه السَّلام اطَّلع على أنَّ المذكورين لا يؤمنون، والأولى أن يُدعى لكل حيٍّ بالهداية، انتهى.
قلت: والظاهر: أنه يجوز الدعاء بالهلاك على المسلم الظالم، وكذا الكافر؛ لعموم حديث الباب، ولقوله تعالى حكاية عن قول نوح: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: ٢٦]، ولعموم قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: ١٨]، {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: ١٩٤]، وذلك فإنَّ في الدعاء بالهلاك تخليص النَّاس من شرِّه وإيذائه لا سيما من يتظاهر في زماننا في إيذاء المسلمين الذين هم أهل التقوى والشرف، ويتجاسرون عليهم بالفجور والشرور، فلا ريب أن الدَّعاء عليهم جائز، بل واجب، وقد رميت بكلام الأعداء الفجار بالقيل والقال، فدعوت الله تعالى عليهم بالهلاك، فبعد سنة واحدة قد أخذ اثنين منهم أخذ عزيز مقتدر، وقد بيَّنت ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المخزون».
(قال) أي: ابن مسعود: (وكانوا) أي: أبو جهل وأصحابه (يَرون)؛ بفتح الياء، ويروى بالضم، قاله صاحب «عمدة القاري»، ومقتضاه: أن الفتح أشهر الروايتين.
وزعم العجلوني تبعًا للبرماوي أن الضم أشهر؛ فتأمل.
ولا يخفى أن الفتح من الرأي، ومعناه: يعتقدون، والضم؛ ومعناه: يظنون، والمعنى الصحيح هنا: الاعتقاد لا الظن، فالفتح هنا أوفق للمعنى وأشهر؛ بدليل أنهم قد شقَّ عليهم إذ دعا عليهم، فهو يدلُّ على أنَّهم كانوا يعتقدون ذلك، فصاحب «عمدة القاري» قد أدرك هذا المعنى بخلاف غيره ممن تصدَّر لشرح هذا الكتاب، فإنه قد خفي عليه هذا المعنى ورئيسهم ابن حجر، فإنَّه قد خفي عليه أيضًا، وتبعوه وكأنَّه عندهم معصوم لا يطرأ عليه خطأ ولا غفلة، بل لو قال غير الحق؛ لاتَّبعوه، ولو قيل: إنَّه إله؛ لعبدوه، وما هذا إلَّا من شدَّة التعصب والعناد والتعنت.
(أن الدعوة) ولابن عساكر إسقاط (أن) (في ذلك البلد)؛ أي: مكة المكرمة، كما صرَّح به ابن نعيم في «المستخرج» فقال: (إن الدعوة في مكة)، كذا في «عمدة القاري» (مستجابة)؛ أي: مجابة، يقال: استجاب وأجاب بمعنًى واحد، فليست السين للطلب؛ كقوله:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما كان اعتقادهم إجابة الدعوة من جهة رسول الله عليه السَّلام، بل من جهة المكان؛ لشرف البلد، ولتعظيمهم له مما بقي عندهم من شريعة إبراهيم الخليل عليه السَّلام، (ثم سمَّى)؛ أي: النبي الأعظم عليه السَّلام قريشًا بأن فصَّل في دعائه ما أجمله أولًا، (فقال) عليه السَّلام: (اللهم؛ عليك بأبي جَهل)؛ بفتح الجيم، وفي رواية إسرائيل: (اللهم؛ عليك بعمرو بن هشام)، وهو اسم أبي جهل، فلعلَّه عليه السَّلام سمَّاه وكنَّاه معًا، ويعرف أيضًا بابن الحنظلية، وكان أحول مأبونًا؛ لقول عُتْبَة بن ربيعة فيه: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره؛ لأنَّه فرعون هذه الأمة، كما قدمناه، (وعليك بعُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، بعدها موحدة (بن رَبيعة)؛ بفتح الرَّاء، (وشيبة بن ربيعة) : هو أخ عُتْبَة المذكور، (والوَلِيد)؛ بفتح الواو، وكسر اللام (بن عُتْبَة)؛ أي: المذكور، بضمِّ العين المهملة، وسكون المثناة الفوقية، ثم باء موحدة، قال في «عمدة القاري» : (ولم تختلف الروايات فيه أنه كذا إلا [ما] وقع في رواية مسلم من رواية زكريا بالقاف بدل التاء، وهو وهم نبَّه عليه ابن سفيان الراوي عن مسلم، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق شيخ مسلم على الصواب) انتهى؛ فافهم، (وأُمَيَّة) بضمِّ الهمزة، وتخفيف الميم، وتشديد التحتية (بن خلف)، وفي رواية شعبة: (أو أُبَي بن خلف)؛ بالشك من شعبة، والصحيح: أمية؛ لأنَّ المقتول ببدر أمية؛ بإطباق أصحاب المغازي عليه، وأخوه أُبيُّ بن خلف قتل بأحد، قاله في «عمدة القاري»، (وعُقْبَة) بضمِّ العين المهملة، وسكون القاف، فموحدة (بن أبي مُعَيْط)؛ بالتصغير، بضمِّ الميم، وفتح العين المهملة، وسكون التحتية، آخره طاء مهملة (وعدَّ السابع فلم نحفظه)؛ بنون المتكلم، ويروى بالياء المثناة التحتية، وفاعل الفعلين: إما عبد الله بن مسعود، أو عمرو بن ميمون، والظاهر أن فاعل (عد) : النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وفاعل (نحفظ) : أحد المذكورين، وهذا على الروايتين، وقال الكرماني: فاعل (عدَّ) : رسول الله عليه السَّلام، أو عبد الله، وفاعل (لم نحفظه) : عبد الله، أو عمرو بن ميمون،.
واعترضه ابن حجر فقال: (لا أدري من أين تهيَّأ له الجزم بذلك مع أن في رواية الثوري عند مسلم ما يدل على أنَّ فاعل «فلم نحفظه» : أبو إسحاق، ولفظه: «قال أبو إسحاق: ونسيت السابع»، وعلى هذا؛ ففاعل «عدَّ» عمرو بن ميمون على أنَّ أبا إسحاق قد تذكَّره مرة أخرى فسمَّاه: «عمارة بن الوليد»، كما أخرجه المصنف في «الصَّلاة») انتهى.
قلت: وهذا كلام فارغ، فقد أخرجه المؤلف في (الجهاد)، ولفظه: (قال أبو إسحاق: