للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مطلقًا؛ كان أبلغ في النفي، وأعذر له) انتهى.

قلت: وقد نحا نحو كلام ابن حجر في نفي جنس الماء بالكلية، وهو غير صحيح، فإنَّ الماءَ في السَّرية موجودٌ عند جميع أهلها حيث إنهم توضؤوا جميعًا، ولم يَنْف (١) الماءَ أحدٌ غير هذا الرَّجلِ، فليس في حذف الخبرِ بسط لعذره؛ لأنَّ الواجب عليه أَنَّه إذا لم يكن عنده ماء؛ يطلبه من رفيقه إمَّا مجانًا أو بثمنٍ مثله إن لم يعطهِ مجانًا، فلا يلزم عمومَ النَّفي؛ لأنَّ القافلة لا تخلو عن الماءِ، ونفي وجود الماء بالكلية لا يليقُ فينا فضلًا عن الصحابيِّ؛ لأنَّ فيه تعريضًا (٢) بالكذب، وهو محالٌ عليه، ولكنَّه مقصرٌ في عدم السَّعي والطلب من رفقائه، ولكنَّه اجتهد في نفسه وأداه اجتهاده إلى ألَّا يسأل أحدًا، وينفي الماء من عنده فقط، فليس في نفي وجوده مطلقًا أبلغيَّةٌ في النَّفي والعذر؛ لاحتمال أنَّ عنده ماء للشرب لنفسه، أو لدوابه، أو غير ذلك، فخشي إِن اغتسلَ يَفْنى الماء، فربَّما يهلك هو ودوابه من العطش؛ فلا يجب عليه حينئذٍ استعماله؛ لأنَّ الحاجة إلى الشُّرب الذي فيه إحياء النفوس مُقدَّم على ذلك، فكلامُ هذا القائل غيرُ صحيح أيضًا، كما لا يَخفى؛ فافهم.

والحقُّ هو ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ.

(قال) أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم للرَّجلِ المذكور: (عليك بالصَّعيد) وكلمة (عليك) من أسماء الأفعال؛ ومعناه: الزم، والألف واللام في (الصَّعيد) لـ (العهد) المذكور في الآية الكريمة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: ٤٣]، وفي رواية مسلم بن رزين عند مسلم: (فأمره أَنْ يتيمم بالصَّعيد)، كذا في «عُمدة القاري»، والمراد بالصَّعيد: وجه الأرض؛ كحجر، ومدرٍ، وتُراب، وغيرها، كما قدمنا تحقيقه، (فإنَّه يكفيك)؛ أي: لإباحة أداءِ الصَّلوات فرضها، وواجبها، ونفلها ما لم تحدث؛ لأنَّ التَّيمم حكمه حكم الوضوء في جواز أداء الفرائض المتعددة به، والواجبات، والنوافل، وهذا مذهب الإمام الأعظم، والجمهور، وخالفهم الشافعية فزعموا أَنَّه يتيمم لكل صلاة فرضٍ والنوافل، وزعم القسطلاني تبعًا لما زعمه ابن حجر في معنى (فإنه يكفيك)؛ أي: لإباحةِ صلاةِ الفرض الواحد مع النوافل.

قلت: وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ معناه: فإنه يكفيك؛ أي: في كلِّ الصلوات؛ فرضها ونفلها، وهذا معنى الأعميَّة، كما ذكرناه آنفًا؛ فليحفظ هذا ولا تغتر بما زعمه، فإنَّه لترويج مذهبه.

وعند ابن حزم من حديث إسماعيل بن مسلم: حدثنا أبو رجاء: (ثُمَّ إنَّ الجُنب وجدَ الماءَ بعد؛ فأمره عليه السَّلام أن يغتسل ولا يعيد الصَّلاة).

قلت: وهذا يدل لما قلناه آنفًا من وجود الماء في القافلة؛ لأنَّها لا تخلو عنه؛ فافهم.

(ثُمَّ سار النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: من ذلك المكان إلى أن اشتدَّ الحرُّ، فشربوا الذي معهم من الماء كله حتى لم يبق معهم شيء، ثمَّ عَطشوا من كثرة السَّير وشدة الحرِّ، والحرُّ حرُّ الحجاز، (فاشتكى إليه) أي: إلى النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (النَّاس من العطش) الحاصل لهم، وفي رواية: (فاشتكوا إليه النَّاس)، وهي من قبيل لغة أكلوني البراغيث، (فنزل)؛ أي: النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأصحابه الذين معه، ولم يعلم اسم ذلك المكان (فدعا فلانًا) : هو عِمران بن حصين راوي الحديث، ويدلُّ على ذلك: قوله في رواية ابن رزين عند مسلم: (ثُمَّ عجلني النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم في ركب بين يديه فطلب الماء)، وهذه الرِّواية تدلُّ على أنَّه كان هو وعليٌّ الصدِّيق الأصغر فقط؛ لأنَّهما خوطبا بلفظ التثنية، وهو قوله: «اذهبا فابتغيا الماء».

فإن قلت: في رواية ابن رزين: (في ركب)، وهو يدلُّ على الجماعة؟

قلت: يُحتمل أن يكون معهما غيرهما، ولكنهما خُصَّا بالخِطاب؛ لأنَّهما تعينا مقصودين بالإرسال، كذا قرره إمام الشَّارحين.

(كان يُسميه) أي: ذلك الرَّجل المدعو بـ (فُلان) (أبو رجاء) : هو العطاردي (نسيه) ولابن عساكر: (ونسيه)؛ بالواو (عوف) : هو الأعرابيُّ الرَّاوي، (ودعا)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا (عليًّا) : هو الصديق الأصغر بن أبي طالب (فقال)؛ أي: النَّبيَّالأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لهما حين حضرا بين يديه: (اذهبا فابتغيا)؛ بالفاء، ثم الموحدة، بعدها مثناة فوقية، من الابتغاء: وهو الطلب، يقال: بغيت الشيء، وابتغيته، وتبغيته؛ إذا طلبته، وابتغيتك الشيء؛ إذا جعلتك طالبًا له، وفي رواية الأصيلي: (فابغيا)؛ بإسقاط المثناة الفوقية، من الثلاثي، وهمزته همزة وصل، وفي رواية أحمد: (فابغيانا)؛ بزيادة النون، والألف في آخره (الماء)؛ أي: لأجل الشُّرب للناس والدَّواب، وكذلك الوُضوءِ، والغسل، ففيه: أنَّ المسافر إذا لم يَجدِ الماء؛ يجبُ عليه الطلب لأمره عليه السلام بذلك.

قال في «منهل الطُّلاب» : (وليس على المتيمم وجوبًا أن يطلب الماء إذا لم يغلب على ظنِّه أن بقربه ماء؛ لأنَّ الغالب عدم الماء في الفلوات)، ولا دليل على الوجود، فلم يكن واجدًا، لكن يستحب له الطلب مطلقًا سواء ظنَّ أنَّ بقربه ماء أو شَكَّ فيه إن رجا، كذا في «السِّراج»، فإن لم يَرجُ؛ لا يطلبه لِعدم الفائدة، كما في «البحر»، وأما في العمرانات؛ فيجب طلب الماء مطلقًا باتفاق أئمتنا الأعلام، وكذا إذا كان يقرب منها، وحدُّ القُرب: ما دون الميل، أمَّا الميلُ وما فوقه؛ فبعيد لا يوجب الطلب، قاله صاحب «البحر»، فإن غلب على ظن المسافر أن هناك؛ يعني: بقربه دون ميل ماء؛ لم يجز له أن يتيمم حتى يطلبه؛ لأنَّه واجدٌ للماء نظرًا إلى الدَّليل؛ وهو غلبة الظنِّ، فإنها قائمة مقام العلم في العبادات، كذا في «العناية»، فكان الطلب عليه واجبًا، وكذا إن وجد أحدًا يسأله عن الماء؛ وجب عليه السُّؤال حتى لو صلى ولم يسأله وأخبره بالماء بعد ذلك؛ أعادَ الصَّلاة، وإلا؛ فلا، كذا في «التبيِّين»، و «البدائع».

واختلف أئمتنا الأعلام في مقدار الطلب للماء، فاختار الإمام حافظ الدين في «الكنز» : أنَّه قدر غلوة؛ وهي مِقدار رمية سهم، كما في «التبيين»، واختار غيره: أنَّه قدر ثلاث مئة ذراع، كما في «الذَّخيرة»، واختار بعضهم: أنَّه قدرُ أربع مئة ذراع، كما في «المغرب»، واختار في «المستصفى» : أنَّه يطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه وسمعوا صوته، وهو الموافق لما قاله الإمام أبو يوسف رضي الله عنه قال: سألت الإمام الأعظم رضي الله عنه عن المسافر لا يجد الماء: أيطلب عن يمين الطريق أو عن يساره؟ فقال: إن طمع فيه؛ فليفعل، ولا يبعد فيضرَّ بأصحابه إن انتظروه، وبنفسه إنِ انقطع عنهم، انتهى.

وقد صححه صاحب «البدائع»، وقال صاحب


(١) في الأصل: (ينفي)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (تعريض)، لعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>