(انطلقي) أي: معنا (إذًا)؛ بالتنوين، وهو ظرف، ومعناه الوقت؛ يعني: انطلقي معنا في هذا الوقت من غير تأخير، (قالت: إلى أين)؛ أي: أنطلق، (قالا)؛ أي: عليٌّ وعِمران لها: (إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قالت) أي: لهما: (الذي يقال له: الصَّابئ؟) يروى بالهمزة وبغيرها، فالأول: من صبأ؛ إذا خرج من دين إلى آخر، والثاني: من صبا يصبو؛ إذا مال، كذا [قال] إمام الشَّارحين، ففي رواية غير الهمزة: هو الياء التحتية؛ والمعنى: أي المائل، (قالا) أي: علي وعِمران لها: (هو الذي تعنين)؛ أي: تريدين وتقصدين، من عنا يعنو؛ إذا قصد وأراد، وقولهما: (هو الذي تعنين) فيه حسن الأدب، وحسن التخلص؛ لأنَّه لو قالا لها: لا؛ لفات المقصود، ولو قالا لها: نعم؛ لم يحسن ذلك؛ لأنَّ فيه تقرير ذلك، قاله إمام الشَّارحين؛ أي: لكونه عليه السلام صابئًا، فتخلصا بهذا اللفظ، وأشارا (١) إلى ذاته الشريفة لا إلى تسميتها؛ فليحفظ.
(فانطلقي)؛ أي: معنا إليه، (فجاءا)؛ بهمزة ممدودة؛ أي: علي وعِمران (بها) أي: بالمرأة المذكورة (إلى النَّبيِّ) الأعظم، ولأبي ذرٍّ، وأبي الوقت: (إلى رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم) وفي الكلام حذف؛ يعني: فانطلقت معهما إلى أَنْ وصلا بها إلى المكان الذي نزل به النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، (وحدثاه الحديث)؛ أي: الذي وقع بينهما وبينها، (قال) أي: عمران بن الحصين (فاستنزلوها) وفي الكلام حذف أيضًا؛ يعني: فلما فرغا من الحديث؛ أمر النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابه الموجودين في خدمته باستنزالها، فاستنزلوها (عن بعيرها)؛ أي: طلبوا منها النزول عنه، فالسين والتاء لـ (الطلب)، وإنما ذكره بلفظ الجمع؛ لأنَّه كان مع علي وعمران من تبعهما ممن يعينهما ويخدمهما، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: ويُحتمل أَنَّ عليًّا وعمران لم يباشرا طلب نزولها، وإنَّما الَّذين استنزلوها هم الأصحاب الذين كانوا بخدمة النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
(ودعا النَّبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) فيه حذف؛ تقديره: فأتوا بها إلى النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأحضروها بين يديه، فدعا عليه السَّلام حينئذٍ (بإناء)؛ أي: وعاء الماء، ولم يذكر أنَّه سألها عن اسمها، وقبيلتها، وحالها، ولعلَّه اقتصر على ما حدَّثاه به عليٌّ وعِمران (ففرغ) عليه السَّلام، من التفريغ، وفي رواية الكشميهني: (فأفرغ) من الإفراغ، (فيه)؛ أي: في ذلك الإناء (من أفواه المَزَادتين)؛ تثنية مزادة؛ بفتح الميم، والزاي، الراوية: وهي أكبر من القربة، و (أفواه) جمع: (فم)؛ لأنَّ أصله: فوه، فحذفوا الواو [لأنها] لا تحتمل التنوين عند الإفراد، وعوَّضوا من الهاء ميمًا.
فإن قلت: لكل مزادة فم واحد، فكيف جمع؟
قلت: هذا من قبيل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤]، قاله إمام الشارحين.
قلت: ومنه قوله تعالى: {إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة: ٦] حيث جاء بلفظ الجمع، ولكلِّ يدٍ مرفقٌ واحد؛ لأنَّ ما كان واحدًا من واحد؛ فتثنيته بلفظ الجمع؛ ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، فلم يقل: قلباكما.
(أو) من أفواه (السَطِيحتين)؛ تثنية سَطِيحة؛ بفتح السين، وكسر الطاء المهملتين، بمعنى: المزادة؛ يعني: أفرغ من أفواههما، والشك من الراوي، ويحتمل أنَّه من أبي رجاء، أو من عمران، كما سبق، (وأَوكأَََ)؛ بهمزتين مفتوحتين، أولاهما في الأول، وثانيهما في الآخر؛ أي: شدَّ، وهو فعلٌ ماض، من الإيكاء: وهو شدُّ الوكاء، وهو ما يشدُّ به رأس القربة من حبل ونحوه؛ ومنه قوله عليه السَّلام: «العينان وكاء السَّهِ...»؛ الحديث؛ يعني: شدَّ (أفواههما)؛ أي: المزداتين بحبل أو نحوه، وقد بين ذلك في رواية الطبراني، وكذا البيهقي قال: (فأفرغ من أفواه المزادتين، فمضمض في الماء، وأعاده في أفواه المزادتين، وأوكأ)، وبهذه الزيادة تظهر الحكمة في ربط الأفواه بعد فتحها، وبهذا حصلت البركة لاختلاط ريقه المبارك للماء، قاله إمام الشَّارحين، (وأطلق)؛ أي: فتح (العَزَالَي)؛ بفتح العين المهملة، والزاي، وفتح اللام، قال السفاقسي: (رويناه بالفتح)، ويجوز فتح الياء، وكذلك يجوز كسر اللام، جمع: لـ (عَزْلاء)؛ بفتح المهملة، وإسكان الزاي، وبالمد؛ وهو فم المزادة الأسفل، وهي عروقها التي يخرج منها الماء بسعة، ولكلِّ مزادة عزلاء وإن من أسفلها، قال الجوهري: (العزالِي)؛ بكسر اللام، وإن شئت فتحتها؛ مثل: الصحاري، والصحارى، ويقال: العزلاء: مَصْبُّ الماء من الرَّاوية والقِربة)، وفي «الجامع» : (عزلاء القربة: مصبٌّ يجعل في أحد يديها يستفرغ منه ما فيها، وإنَّما سُميت عزالي السحاب؛ تشبيهًا بها).
وقال السفاقسي: (رويناه بالفتح: وهو أفواه المزادة السفلى).
وقال الداودي: (ليس في أكثر الرِّوايات أَنَّهم فتحوا أفواه المزادتين أو السطيحتين، ولا أنهم أطلقوا العزالي، وإنما شقوا المزادتين، وهو معنى: صبوا منهما، ثُمَّ أعاده فيهما إن كان هو المحفوظ)، كذا في «عُمدة القاري».
قلت: وفيما قاله الداودي نظر، فإنَّ أكثر الروايات، بل جميعها: أنَّهم فرغوا الماء من المزادتين إلى الإناء، وأنَّهم أطلقوا العزالي على أن الشق يضر بالمزادة، ويفني الماء، فيفوت المقصود؛ فتأمل.
(ونُودي)؛ بضمِّ النون على البناء للمجهول (في الناس)؛ أي: الصحابة الموجودين وقتئذٍ، ولم يعلم اسم المنادي، والظاهر: أنه بلال؛ لأنَّه عالي الصوت: (اسقوا)؛ بهمزة وصل، من سقى فتكسر، أو همزة قطع من أسقى فتفتح؛ يعني: اسقوا غيركم كالدواب ونحوها (واستقوا)؛ أي: لأنفسهم؛ كلٌّ منهما، فعل أمر (فسقي من سقى) وفي رواية ابن عساكر: (فسقى من شاء)، (واستقى من شاء) قال إمام الشَّارحين: (والفرق بين «اسقوا» من السقي، و «استقوا» من الاستقاء: أَنَّ السَّقي لغيره، والاستقاء لنفسه، ويقال أيضًا: سقيته لنفسه، وأسقيته لماشيته) انتهى.
(وكان آخر ذلك) أي: آخر السَّقي والاستقاء (أن أعطى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (الذي أصابته الجنابة) وهو الرجل المعتزل المذكور (إناءً) مملوءًا (من ماء)؛ بالمد، ويجوز في لفظة (آخر) الرفع والنصب، أما الرفع؛ فظاهر؛ لأنَّه اسم (كان)، وقوله: (أن أعطى) خبره؛ لأنَّ (أن) مصدريَّة، وأمَّا النَّصب؛ فلأنَّه خبر (كان) مقدمًا على اسمه، وهو (أن أعطى)؛ لأنَّ (أن) مصدرية؛ تقديره: وكان إعطاؤه للرجل الذَّي أصابته الجنابة آخر ذلك، والأمران جائزان.
وقال العلامة أبو البقاء: (النصب أولى وأقوى؛ لأنَّ «أن» و «الفعل» أعرف من الفعل المفرد، وقد قُرِئ قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَاّ أَن قَالُوا} [النمل: ٥٦] : بالوجهين) انتهى.
وقال إمام الشارحين: (وعندي كلاهما سواء؛ لأنَّ كلًّا معرفة) انتهى.
وفي رواية بإسقاط لفظة: (ذلك)، (قال) أي: النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم للَّذي أصابته الجنابة: (اذهب فأفرغه)؛ بقطع الهمزة، من الإفراغ: وهو الصَّبُّ، والضمير فيه يرجع إلى (الماء) الذي في
(١) في الأصل: (فأشار)، والمثبت هو الصواب.