للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

والتنزيه (فرفعتهما)؛ أي: الوسطى والسبابة (إلى السماء؛ تعني)؛ أي: تقصد وتريد المرأة بذلك: (السماء والأرض)؛ لأنَّه نبي مرسل إلى كافَّة النَّاس بشيرًا ونذيرًا؛ وقوله: (أو إنه) عطف على قولها: (فوالله؛ إنه) (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حقًّا) مصدر حق؛ يعني: أحقه رسول الله حقًّا يقينًا، وظاهر قولها هذا وإن كان فيه الشَّك: أنَّها آمنت به عليه السَّلام قبل وصولها إلى قومها، وقولها: (إنَّه لأسحر النَّاس) إنَّما قالته خوفًا من أهلها وقومها أنْ يقتلوها، ففاجئتهم أولًا بذلك، ثم قالت لهم ما هو الحق؛ لأجل أن يرغبوا في الإسلام، يدلُّ عليه: أنَّها هي التي كانت سببًا في إسلام قومها، كما يأتي قريبًا، وزعم القسطلاني أنَّ هذا منها ليس بإيمان؛ للشكِّ، لكنها أخذت في النظر؛ فأعقبها الحق، فآمنت بعد ذلك.

قلتُ: بل هذا منها إيمان به عليه السَّلام، والشكُّ لا ينافي ذلك؛ لأنَّها ذكرت ذلك لقومها، فلو قالتْ لهم ابتداءً: إنَّه لرسول الله؛ لربما وقع في نفوسهم شيءٌ فقتلوها، وهي تعلم ذلك منهم؛ فعبَّرت لهم كلامًا يوافق نفوسهم حيث ابتدأت بما يرضون به، ثُمَّ ثنَّت بما يرضيها، فهذا الشَّك طارئٌ عليهم بمعنى التَّشكيك، فإنَّها تعلم أنَّه رسول الله، لكنها شكَّكت الأمر عليهم أولًا، ثم حققته لهم.

وقوله: (لكنَّها أخذت...) إلى آخره؛ هذا تناقض، فإنَّها حققت النَّظر حين كانت في منزل النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وآمنت وكتمت إيمانها خوفًا من أهلها وقومها، ويحتمل أنَّ قولها: (أوَ إنَّه لرسول الله) ناسخٌ لقولها: (إنَّه لأسحر الناس)؛ لتقدمه، وإثباتُ قولها: (إنَّه لرسول الله) بقولها: (حقًّا)؛ يعني: صِدقًا صادقًا، فلو كانت شاكَّةً؛ لم تأت بقولها: (حقًّا)؛ فليتأمل.

(فكان المسلمون بعد) وقوله: (ذلك) ساقط في رواية الأصيلي، ثابتٌ في غيرها، والإشارة إلى القصة، ووصول المرأة إلى أهلها، وقولها لقومها: (يُغيرون)؛ بضمِّ المثناة التحتية أوله، من الإغارة بالخيل في الحرب، قيل: ويجوز فتح الياء؛ من غار.

قلتُ: لكنه قليل، وكونه من أغار هو الكثير المشهور؛ فافهم.

(على من حولها من المشركين)؛ يعني: يغزونهم (١)، ويقاتلونهم، ويغنمون (٢) منهم الغنائم، (ولا يصيبون) أي: ولا يغيرون (الصِرْم)؛ بكسر الصاد المهملة، وسكون الراء: وهو أبيات من النَّاس مجتمعة، والجمع: أصرام وأصاريم وصرمال، والأخيرة عن سيبويه، كذا في «عُمدة القَاري»، وزعم القسطلاني أن الصِرْم: نفر ينزلون بأهليهم على الماء.

قلتُ: وهو غير ظاهر؛ لأنَّه لو كان كذلك؛ لما أرسلوا المرأة المذكورة إلى الماء؛ لأجل أنْ تأتيهم به، وقد حَملتْ على بعيرها مزادتين، كما سبق في أوَّل القصة، فهذا يدلُّ على أنَّه أبيات من النَّاس مجتمعة، كما فسَّره إمام الشَّارحين؛ لأنَّهم لو كانوا نازلين على الماء؛ لم يحتاجوا إلى استجلابه؛ فليحفظ.

(الذي هي منه)؛ أي: المرأة المذكورة، وإنما لم يغيروا عليهم وهم كفرة؛ يُحتمل أنَّه للطمع في إسلامهم بسبب وجودها عندهم، ويُحتمل أنه لرِعاية زمامها.

قلتُ: والظاهر الأول، ويدلُّ عليه قوله: (فقالت) أي: المرأة المذكورة (يومًا لقومها) والمراد بهم: أهلها وغيرهم؛ فهو أعم، وذلك بعد أن رأى قومها إغارة المسلمين على المشركين حولهم، ولم يصيبوهم (٣) بسوءٍ أصلًا؛ فافهم.

(ما أُرى)؛ بضمِّ الهمزة بمعنى: أظن، وبفتحها بمعنى: أعلم، و (ما) موصولة، كذا في «عُمدة القَاري» (أَنَّ) بفتح الهمزة، وتشديد النون (هؤلاء القوم) أي: المسلمين (يدَعونَكم)؛ بفتح الدال المهملة؛ أي: يتركونَكم من الإغارة عليكم (عمدًا)؛ أي: لا غفلة عنكم، ولا سهوًا منهم، ولا خوفًا منكم، بل لاستيلافكم ومراعاة لما سبق بيني وبينهم، وهذه رواية أبي ذرٍّ، وهي الأولى، وفي رواية الأكثرين: (ما أَرى هؤلاء)؛ بفتح الهمزة في (أرى)، وإسقاط كلمة (أن)، وفي رواية ابن عساكر: (ما أُرى)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: أظن (إنَّ هؤلاء)؛ بكسر الهمزة، وفي رواية الأصيلي: (ما أدري أَنَّ)؛ بالدال المهملة بعد الألف، وفتح همزة (أَنَّ)، وتشديد نونها، وهي في موضع نصبٍ على المفعولية؛ والمعنى: ما أدري ترك هؤلاء إيَّاكم عمدًا لماذا هو؟

وقال المحقق أبو البقاء: الجيِّد أن يكون (أن هؤلاء)؛ بالكسر على الإهمال والاستئناف، ولا يفتح على إعمال (أدري) فيه؛ لأنَّها قد عملت بطريق الظاهر، ويكون مفعول (أدري) محذوفًا؛ والمعنى: ما أدري لماذا تمتنعون من الدُّخول في الإسلام إنَّ المسلمين تركوا الإغارة عليكم عمدًا مع القُدرة منهم عليكم؟ وقيل: إنَّ (ما) نافية، و (إنَّ) بالكسر؛ ومعناه: لا أعلم حالكم في تخلفكم عن الإسلام مع أنَّهم يدعونكم عمدًا، (فهل لكم) أي: رغبة بالدُّخول (في الإسلام؟) فقال: بلى، (فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام)؛ فحصل لها بذلك زيادة الثَّواب، والترقي في الدَّرجات في الجنان، وهذا يدلُّ على أنَّها آمنت قبلهم كما ذكرنا؛ لأنَّه لو كان غير ذلك؛ لما قالت لهم ذلك، ولما أمرتهم بالدخول في الإسلام، بل كانت مثلهم، فقولها: (ما أرى...) إلى آخره؛ دليل على إيمانها من قبل، وأنَّها تريد دخولهم في الإسلام، فلمَّا رأت إغارة المسلمين على المشركين دونهم؛ صار لها دخل وسبب في دخولهم، فحقق الله مقصدها، وفي الحديث الصَّحيح: أنَّه عليه السلام قال لعلي: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمرِ النِّعم»، وفي الحديث أحكام؛

أحدها: فيه استحباب سلوك الأدب مع الأكابر، كما فعل عُمَر رضي الله عنه في إيقاظ النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.

الثاني: فيه إظهار التأسُّف لفوات أمر من أمور الدين.

الثالث: فيه لا حرج على من تفوته صلاة، لكن لا بتقصير منه؛ لقوله عليه السلام: «لا ضَير».

الرابع: فيه أَنَّ من أجنب ولم يجد ماءً؛ فإنَّه يتيمم؛ لقوله عليه السلام: «عليك بالصَّعيد».

الخامس: فيه أنَّ العالم إذا رأى أمرًا مجملًا يسأل فاعله عنه ليوضحه؛ فيوضح له وجه الصَّواب.

السادس: فيه استحباب الرِّفق والملاطفة في الإنكار على أحد؛ كترك الشَّخص الصَّلاة بالجماعة.

السابع: فيه الإنكار على ترك الشَّخص الصَّلاة بحضرة المصلين بغير عذر.

الثامن: فيه أن قضاء الفوائت واجبٌ، ولا يسقط بالتأخير ويأثم بتأخيره بغير عذر.

التاسع: فيه أنَّ من حلت به فتنة في بلدٍ؛ فليخرج منه وليهرب


(١) في الأصل: (يغزوهم)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (ويغنموا)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (يصيبونهم)، والمثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>