والعفاف، والفضل، ولم يقل له أحد: مرحبًا بالنبي الصادق، ولا: بالنبي الأمين؛ لما ذكرنا أنَّ الصلاح شامل لسائر أنواع الخير، كذا قاله إمام الشَّارحين.
(قلت) أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قلت (لجبريل: مَن) بفتح الميم (هذا)؛ أي: الرجل القاعد على يمينه أسودة وعلى يساره كذلك؟ (قال) أي: جبريل: (هذا آدم)؛ أي: أبو البشر، قيل: إن اسم آدم سرياني، وقيل: مشتق، فقيل: أفعل من الأدمة، وقيل: من لفظ الأديم؛ لأنَّه خلق من أديم الأرض، قال النضر بن شميل: (سمي آدم؛ لبياضه)، وذكر محمد بن علي: (إن الآدم من الظباء الطويل القوائم)، وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا، فكل من يدخل الجنة على صورته وطوله، وولد له أربعون ولدًا في عشرين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى، إلا شيثًا، فإنه ولد وحده»، وعاش عليه السَّلام ألف سنة، وكنيته: أبو البشر، كما ذكرنا، وأبو الأنبياء المرسلين، وقيل: أبو محمد، وروى ابن عساكر من حديث علي رضي الله عنه مرفوعًا: «أهل الجنة ليس لهم كنى إلا آدم، فإنه يكنى أبا محمد»، وفي حديث كعب الأحبار: (ليس لأحد من أهل الجنة لحية إلا آدم، فإن له لحية سوداء إلى سرته)، وذلك؛ لأنَّه لم يكن له لحية في الدنيا، وإنما كانت اللحى بعد آدم، ولما أهبط من الجنة؛ هبط بسرنديب من الهند على جبل يقال له: نَوَد، ولما حضرته الوفاة؛ اشتهى قطف عنب، فانطلق بنوه ليطلبوه، فلقيتهم الملائكة، فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: إن أبانا اشتهى قطفًا، فقالوا: ارجعوا قد كفيتموه فرجعوا؛ فوجدوه قد قبض، فغسلوه، وحنطوه، وكفنوه، وصلى عليه جبريل عليه السَّلام، والملائكة خلفه، وبنوه خلفهم، ودفنوه، وقالوا: هذه سنتكم في موتاكم، ودفن في غار يقال له الكنز في أبي قبيس، فاستخرجه نوح عليه السَّلام في الطوفان وأخذه، وجعله في تابوت معه في السفينة، فلما نضب الماء؛ رده نوح عليه السَّلام إلى مكانه، كذا في «عمدة القاري».
(وهذه الأسودة)؛ أي: التي (عن يمينه وشماله نَسَم)؛ بفتح النون والسين المهملة، والنسمة: نفس الروح، وما بها نسمة؛ أي: نفس، والجمع نسم، قاله ابن سيده، وزعم الخطابي هي النفس (بنيه) والمراد: أرواح بني آدم، وزعم ابن التين ورويناه: (شيم) بني آدم، والأولى أشبه، قاله إمام الشَّارحين.
(فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار) فإن الجنة فوق السماء السابعة في جهة يمين آدم، والنار في الأرض السابعة في جهة يساره، فيكشف الله له عنهما، كما سيأتي، (فإذا نظر عن يمينه؛ ضحك، وإذا نظر قبل شماله؛ بكى) ففيه دلالة على أن نسم أهل النار في السماء، وقد جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، فكيف تكون مجتمعة في السماء؟!
وأجيب: بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا، فصادف وقت عروضها مرور النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.
فإن قلت: لا تفتح أبواب السماء لأرواح الكفار كما هو نص القرآن.
قلت: يحتمل أنَّ الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار في جهة شماله، وكانت يكشف له عنهما، ويحتمل أن يقال: إنَّ النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلمه الله تعالى بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه، ويحزن إذا نظر إلى من على يساره، قاله إمام الشَّارحين.
(حتى عَرَجَ)؛ بفتحات؛ أي: صعد (بي)؛ أي: جبريل، ولابن عساكر: (به)، وهو من باب التجريد، كما سبق (إلى السماء الثانية، فقال) أي: جبريل (لخازنها)؛ أي: الملك الموكل بحفظها: (مثل ما قال الأول)؛ يعني: قال لخازنها: افتح الباب، قال الخازن: من هذا الذي يقرع الباب؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم؛ معي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: أأرسل إليه؟ قال جبريل: نعم؛ أرسل إليه، (ففتح)؛ أي: الخازن لهما باب السماء الثانية، (قال) وفي رواية: (فقال) (أنس) : هو ابن مالك رضي الله عنه، (فذكر)؛ أي: أبو ذر جندب ابن جنادة الغفاري (أنه)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وجد في السماوات)؛ أي: السبع (آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم صلوات الله عليهم).
فإن قلت: كيف رأى النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم الأنبياء في السماوات، ومقرهم في الأرض؟
أجيب: بأن الله تعالى شكل أرواحهم على هيئة صور أجسادهم، ذكره ابن عقيل، وكذا ذكره ابن التين، وقال: (وإنما تعود أرواحهم إلى الأجساد يوم البعث إلا عيسى بن مريم عليه السَّلام، فإنه لم يمت وهو ينزل إلى الأرض) انتهى.
واعترضهما إمام الشَّارحين فقال: (الأنبياء أحياء، فقد رآهم عليه السَّلام حقيقة، وقد مر على موسى عليه السَّلام وهو قائم في قبره يصلي، ورآه في السماء السادسة) انتهى.
قلت: يعني: أنَّ الأنبياء عليهم [السلام] أحياء حقيقة، يدل عليه قوله عليه السَّلام في هذا الحديث: (وجد... إلى آخره)، وهو يدل على أنه رآهم أحياء حقيقة، وكيف وقد قال تعالى في حق الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: ١٦٩] (١)، فالمراد بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ}؛ يعني: في الجنة، والجنة فوق السماوات، وإنَّهم أحياء حقيقة، كما نطق به الكتاب العزيز، فلا يكون الشهداء أرقى من الأنبياء، بل الأنبياء عليهم السلام أرقى حالًا منهم، كما لا يخفى؛ لأنَّه ليس فوق درجة النبوة شيء، خلافًا للمتصوفة الزاعمين ذلك، وهو كفر وزندقة؛ فليحفظ.
(ولم يثبت) : من الإثبات (كيف منازلهم)؛ أي: لم يعين أبو ذر لكل نبي منهم سماء معينًا (غير أنه)؛ أي: أبا ذر (ذكر أنه)؛ أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة) نعم في «الصحيحين» من حديث أنس، عن مالك بن صعصعة: (أنه وجد آدم في السماء الدنيا)، كما سلف في حديث أبي ذر، وفي الثانية يحيى وعيسى، وفي الثالثة يوسف، وفي الرابعة إدريس، وفي الخامسة هارون، وفي السادسة موسى، وفي السابعة إبراهيم، وهو مخالف لرواية أنس عن أبي ذر: (أنه وجد إبراهيم في السماء السادسة)، وكذا جاء في «صحيح مسلم».
وأجيب: بأن الإسراء إن كان وقع مرتين؛ فيكون رأى إبراهيم في أحدهما؛ أي: أحد السماءين، ويكون استقراره ووطنه بها، والثانية في سماء غير وطنه، وإن كان الإسراء وقع مرة واحدة؛ فيكون رآه أولًا في السماء السادسة، ثم ارتقى معه إلى السماء السابعة، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(١) في الأصل: (ألم تر إلى الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون).