للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وزعم ابن حجر أنَّ المعراج إن كان وقع مرة واحدة، فالأرجح رواية الجماعة؛ لقوله فيها: إنه رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وهو في السماء السابعة بلا خلاف، ورده إمام الشَّارحين فقال: وقول هذا القائل: (بلا خلاف) غير صحيح؛ لأنَّ فيه خلافًا، فقد روي عن ابن عباس، ومجاهد، والربيع: (أنه في السماء الدنيا)، وروي عن علي: (أنه عند شجرة طوبى في السماء السادسة)، وروي عن الضحاك ومجاهد: (أنه في السماء السابعة).

فإن قلت: كيف يجمع بين هذه الأقوال وفيها منافاة؟

قلت: لا منافاة بينها؛ لأنَّه يحتمل أنَّ الله تعالى رفعه ليلة المعراج إلى السماء السادسة عند سدرة المنتهى، ثم إلى السماء السابعة تعظيمًا للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم حتى يراه في أماكن، ثم أعاده إلى السماء الدنيا.

وفي «تفسير» الحافظ النسفي: البيت المعمور: حذاء العرش بحيال الكعبة، يقال له: الضراح، حرمته في السماء كحُرمة (١) الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة، يطوفون به، ويصلون فيه، ثم لا يعودون إليه أبدًا، وخادمه ملك يقال له: رزين، وقيل: كان في الجنة، فحمل إلى الأرض؛ لأجل آدم، ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان.

قلت: الضُّراح؛ بضم الضاد المعجمة، وبالحاء المهملة، وقال الصاغاني: ويقال له: الضريح أيضًا، انتهى كلام إمامنا في «عمدة القاري».

(قال أنس) : هو ابن مالك، وظاهره أن أنسًا لم يسمع من أبي ذر هذه القطعة الآتية، قاله إمام الشَّارحين.

قلت: وهي قوله: (فلما مَرَّ)؛ بفتح الميم، وتشديد الراء المفتوحة، من المرور (جبريل بالنبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يعني: في السماوات مصاحبًا لنبينا عليه السَّلام (بإدريس) والجار والمجرور في الموضعين يتعلقان كلاهما بقوله: (مر)، فالأولى للمصاحبة كما ذكرنا، والثانية للإلصاق، أو بمعنى: على، وجاز تعلق حرفين من جنس واحد بمتعلق واحد وإن كانا ليسا من جنس واحد؛ لصحة المعنى في ذلك، خلافًا لمن منعه، بل هذا يدفعه، أفاده إمام الشَّارحين.

(قال)؛ أي: إدريس حين رأى النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (مرحبًا)؛ بالنصب على المفعولية المطلقة؛ يعني: أتيت مكانًا رحبًا واسعًا سهلًا (بالنبي الصالح)؛ أي: القائم بحقوق الله، وحقوق عباده (والأخ الصالح) وإنما لم يقل: والابن كما قال آدم؛ لأنَّ إدريس لم يكن من آبائه عليه السَّلام، كذا قاله القسطلاني.

قلت: وكان ينبغي لإدريس أن يقول: والابن؛ لأنَّه أكبر سنًّا منه، لكنه لما علم أنه أفضل منه حيث جاء إلى مكان لم يجئه أحد قبله عليه السَّلام؛ علم بالقرينة أنه أفضل منه قدرًا عند الله عز وجل، فوصفه بالأخوة، وهي تقتضي المشاركة في النبوة فقط؛ فليحفظ.

(فقلت)؛ أي: قال النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم فقلت: (مَن)؛ بفتح الميم (هذا؟)؛ أي: يا جبريل الذي قال هذا القول، (قال) : وللأصيلي: (فقال)؛ أي: جبريل (هذا إدريس) عليه السَّلام، وسمي به؛ لدرسه الصحف الثلاثين التي أنزلت (٢) عليه، فقيل: إنه خنوخ، ويقال: أحنوخ، ويقال: أخنخ، ويقال: أهنخ بن برد بن مهليل بن قينن بن يانش بن شيث بن آدم عليه السَّلام، واسم أمه: بره، وخنوخ اسم سرياني؛ ومعناه بالعربية: إدريس، قال وهب: هو جد نوح عليه السَّلام، وقد قيل: إنه إلياس، وإنه ليس بجد نوح، ولا هو في عمود هذا النسب، ونقله السهيلي عن ابن العربي، ويشهد له حديث الإسراء حيث قال فيه: (مرحبًا بالأخ الصالح)، ولو كان في عمود هذا النسب؛ لقال له كما قال إبراهيم: (والابن الصالح)، وزعم ابن حجر أن إدريس كان نبيًّا في بني إسرائيل، فإن كان كذلك؛ فلا اعتراض عليه، وزعم النووي يحتمل أنه قاله تلطفًا وتأدبًا، وهو أخ وإن كان ابنًا، والأبناء إخوة، والمؤمنون إخوة، وزعم ابن المنير أكثر الطرق على أنه خاطبه بالأخ، قال: وقال لي ابن أبي الفضل صحت لي طريق أنه خاطبه فيها: (بالابن الصالح)، وقال المارزي: ذكر المؤرخون: أن إدريس أرسل إليه، ولم يصح قول النسابين: إنه نوح؛ لأخبار نبينا عليه السَّلام في الحديث الصحيح: «ائتوا نوحًا، فإنه أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض»، وإن لم يقم دليل جازم، وقال: وصح أن إدريس كان نبيًّا، ولم يرسل إليه، قال السهيلي: (وحديث أبي ذر الطويل يدل على أن آدم وإدريس رسولان).

قلت: حديث أبي ذر أخرجه ابن حبان في «صحيحه» رفع إلى السماء الرابعة، ورآه عليه السَّلام فيها، ورفع وهو ابن ثلاث مئة وخمس وستين سنة)، كذا في «عمدة القاري».

(ثم مررت بموسى) : هو ابن عمران عليه السَّلام صاحب الخضر، نبي بني إسرائيل، المتوفى في التيه في سابع إدار لمضي ألف سنة وست مئة وعشرين سنة من الطوفان عن مئة وستين سنة؛ يعني: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «ثم مررت بموسى»، ففي الكلام حذف؛ تقديره هكذا؛ لأنَّه قال أولًا: (فلما مر جبريل)، فما وجه قوله بعد: (ثم مررت بموسى)؟

فالذي قدرناه هو وجهه، وفيه وجه آخر، وهو أن يكون الأول نقلًا بالمعنى، والثاني يكون نقلًا باللفظ بعينه، كذا قاله إمام الشَّارحين.

(فقال)؛ أي: موسى له (مرحبًا بالنبيِّ الصالح، والأخ الصالح) وسقط قوله: (والأخ الصالح) في رواية الأربعة، (قلت)؛ أي: قال النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «قلت»، وفي رواية: (فقلت) (من هذا) يا جبريل؟ (قال: هذا موسى) بني إسرائيل: هو ابن عمران بن يصهر بن فاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السَّلام، (ثم مررت بعيسى)؛ أي: صاحب الإنجيل، (فقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح) قال عليه السَّلام (فقلت) : وفي رواية: (قلت) (من هذا) يا جبريل؟ (قال: هذا عيسى) : هو ابن مريم، وسقط لفظة (هذا) عند أبي ذر، ومريم بنت عمران بن أسهم من ولد سليمان بن داود عليه السَّلام، وليس عمران هذا عمران والد موسى وهارون؛ لأنَّ عمران والد مريم كان بعد والد موسى بألف وثمان مئة سنة، والمراد بالـ (كلمة) في قوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ} [آل عمران: ٣٩] : هو عيسى عليه السَّلام، وهو قول الجمهور، وكان يحيى عليه السَّلام أول من صدق بعيسى وآمن به.

وقال السدي: (لقيت أم يحيى أم عيسى، وهذه حاملة بعيسى وتلك بيحيى، فقالت: يا مريم؛ شعرت أني حبلى، فقالت مريم: وأنا أيضًا حبلى، قالت امرأة زكريا: وإني (٣) وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذاك قوله تعالى: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ}).

قال ابن عباس: (إن يحيى كان أكبر سنًّا من عيسى بستة أشهر)، وكان يحيى أول من صدق وآمن بأنه كلمة الله وروحه، ثم قتل يحيى عليه السَّلام قبل أن يرفع (٤) عيسى عليه السَّلام، وإنما سمي روحًا؛ لأنَّه أحيا الله به من الضلالة كما يحيي الإنسان


(١) في الأصل: (كحرمته)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أنزلت على عليه).
(٣) في الأصل: (وفإني)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (رفع)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>