بالروح، وإنما سمي كلمة؛ لأنَّه بها تكون، والمسيح لقبه، وهو من الألقاب المشرفة؛ كالصديق، وأصله بالعبرانية مشيحا؛ ومعناه: المبارك، وعيسى اسمه معرب أيشوع، وابن مريم كنيته، وإنما قيل: ابن مريمتنبيهًا إلى أنه يولد من غير أب؛ لأنَّ الأولاد تنسب إلى الآباء، ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب، والمسيح مشتق من المسح؛ لأنَّه مسح الأرض، ولم يقم في موضع، وقيل: لأنَّه مسح بالبركة، أو بما طهره من الذنوب، وعيسى مشتق من العيس؛ وهو بياض يعلوه حمرة، وقد أخبر نبينا عليه السَّلام: بأنَّ وجهه كأنَّه خرج من ديماس؛ أي: حمام.
(ثم مررت)؛ أي: في السماء (بإبراهيم)؛ ومعناه: أب راحم، وكنيته أبو الضيفان، قيل: إنه ولد بغوطة دمشق ببرزة في جبل قاسيون، والصحيح: أنه ولد بكوثا من إقليم بابل من العراق، وكان بينه وبين نوح عدة قرون، وقيل: ولد على رأس ألفي سنة من خلق آدم عليه السَّلام، وذكر الطبري: (أن إبراهيم إنَّما نطق بالعبرانية حين عبر النهر فارًّا من نمرود اللعين، فقال نمرود للذين أرسلهم في طلبه: إذا وجدتم فتَى يتكلم بالسريانية؛ فردوه، فلما أدركوه؛ استنطقوه، فحول الله لسانه عبرانيًّا، وذلك حين عبر النهر، فسميت العبرانية بذلك).
قلت: والمراد من هذا النهر هو الفرات، وبلغ إبراهيم مئتي سنة، وقيل: ينقص خمسة وعشرين، ودفن بالبلد المعروفة بالخليل صلَّى الله عليه وسلَّم، قاله إمام الشَّارحين.
(فقال: مرحبًا بالنبي الصالح، والابن الصالح) إنَّما وصفه بالبنوة؛ لأنَّه عليه السَّلام من أولاده، ولأنه أبو الأنبياء، فإن يعقوب عليه السَّلام من ذريته، وهو جده، وهو أول بني إسرائيل، وآخرهم عيسى عليه السَّلام، فالأنبياء بينهما كثير، فهو الأب الثاني كما قيل، (قلت: من هذا) يا جبريل؟ (قال: هذا إبراهيم)؛ أي: خليل الرحمن عليه السَّلام، وإنما عين النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من الأنبياء آدم، وإدريس، وإبراهيم، وموسى، وعيسى في حديث هذا الباب، وفي غيره ذكر أيضًا يحيى، ويوسف، وهارون، وهم ثمانية.
وأجيب: أما آدم عليه السَّلام؛ فإنه خرج من الجنة بعداوة إبليس عليه اللعنة له وتحيله، وكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خرج من مكة بأذى قومه له ولمن أسلم معه، وأيضًا فإن الله تعالى أراد أن يعرض على نبيه عليه السَّلام نسم بنيه من أهل اليمين وأهل الشمال؛ ليعلم بذلك أهل الجنة وأهل النار، وأما إدريس عليه السَّلام؛ فإنه كان أول من كتب بالقلم وانتشر منه بعده في أهل الدنيا، فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم كتب إلى الآفاق، وأما موسى عليه السَّلام؛ فإن أمره آل إلى قهر الجبابرة وإخراجهم من أرضهم، فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإن اليهود أرادوا قتله حين سمُّوا له الشاة، فنجاه الله تعالى من ذلك، وأما إبراهيم عليه السَّلام؛ فإن نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وكذلك حال نبينا عليه السَّلام كان في حجة البيت العتيق، واختتام عمره بذلك نظير لقائه إبراهيم في آخر السماوات، وأما عيسى عليه السَّلام؛ فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، وتنطق له الغزالة، والجمل، والكتف المسموم، وأما يحيى عليه السَّلام؛ فإن نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رآه مع عيسى في السماء، وإنه رأى من اليهود ما لا يوصف حتى ذبحوه، فكذلك صلَّى الله عليه وسلَّم رأى من قريش ما لا يوصف، ولكن الله تعالى نجاه منهم، وأما يوسف عليه السَّلام؛ فإنه لما عفا عن إخوته حيث قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ...}؛ الآية [يوسف: ٩٢]؛ فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عفى عن قريش يوم فتح مكة، وأما هارون عليه السَّلام؛ فإنه كان محببًا إلى بني إسرائيل حتى إن قومه كانوا يؤثرونه على موسى عليه السَّلام، فكذلك نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صار محببًا عند سائر الخلق الإنس، والجن، والوحوش، والطيور.
فإن قلت: قوله في الحديث: (ولم يثبت كيف منازلهم) يخالفه كلمة (ثم) التي هي للترتيب.
قلت: أجيب: بأن أنسًاإما لم يرو هذا عن أبي ذر، وإما أن يقال: لا يلزم منه تعيين منازلهم لبقاء الإبهام فيه؛ لأنَّ إبراهيم بينه وبين آدم ثلاثة من الأنبياء، وأربعة من السماوات، أو خمسة؛ لأنَّه جاء في بعض الروايات: (أن إبراهيم في السماء السابعة)، كذا قاله إمام الشَّارحين.
قلت: يعني: إن (ثم) هنا للترتيب الذكري، وليست على بابها من الترتيب في المنازل، وقد يقال: إنَّ هذا جارٍ على القول بتعدد المعراج؛ لأنَّ الروايات قد اتفقت على أنَّ المرور بإبراهيم كان قبل المرور بموسى عليهما السلام؛ فليحفظ.
(قال ابن شهاب) : هو محمد بن مسلم الزهري: (فأخبرني)؛ بالإفراد (ابن حَزْم)؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الزاي: هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني قاضي المدينة وأميرها زمن الوليد، وأبوه محمد، وله في عهد النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمر عليه السَّلام أباه أن يكنيه بأبي عبد الملك، وكان فقيهًا فاضلًا، قتل يوم الحرة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وهو تابعي، وذكره ابن الأثير في الصحابة، ولم يسمع الزهري منه؛ لتقدم موته، كذا قاله إمام الشَّارحين، وقول القسطلاني: (إنه مات سنة عشرين ومئة عن أربع وثمانين سنة) : فيه نظر؛ لأنَّ صوابه أنه عن ثلاث وخمسين سنة؛ فافهم.
(أن) بفتح الهمزة (ابن عباس) : هو عبد الله رضي الله عنهما (وأبا حَبَّة)؛ بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحدة، وهو المشهور، وقال القابسي: (بالمثناة التحتية)، وغلطوه في ذلك، وقال الواقدي: (بالنون) (الأنصاري) البدري، واختلف في اسمه، فقال أبو زرعة: (إنه عامر)، وقيل: عمرو، وقيل: ثابت، وقال الواقدي: (إنه مالك).
فإن قلت: في هذا الإسناد وهم؛ لأنَّ رواية أبي بكر عن أبي حبة منقطعة؛ لأنَّه استشهد يوم أحد قبل مولد أبي بكر بدهر، بل قبل مولد أبيه محمد أيضًا، ففي هذه الرواية وهم؛ لأنَّه إن كان المراد بـ (ابن حزم) أبا بكر؛ فهو لم يدرك أبا حبة، وإن كان محمد؛ فهو لم يدركه الزهري.
قلت: أجيب: بأن ابن حزم رواه عنه مرسلًا؛ حيث قال: (إن ابن عباس وأبا حبة)، ولم يقل: سمعت، وأخبرني،