ونحوهما، فلا وهم فيه، وهكذا أيضًا في «صحيح مسلم»، كذا قاله إمام الشَّارحين؟
قلت: وقول أبي زرعة إن اسمه عامر هو ابن عبد عمرو بن عمير بن ثابت، وأنكر الواحدي أن يكون في البدرين من يكنى أبا حبة؛ بالموحدة، وقال في «الإصابة» : وروى عنه أيضًا عمار بن أبي عمار، وحديثه عنه في «مسند» ابن أبي شيبة، وأحمد ابن حنبل، وصححه الحاكم، وصرح بسماعه منه، وعلى هذا؛ فهو غير الذي ذكر ابن إسحاق: أنه استشهد بأحد، وله في الطبراني حديث آخر من رواية عبد الله بن عمرو بن عثمان عنه، وسنده قوي إلا أن عبد الله بن عمرو بن عثمان لم يدركه، انتهى.
قال ابن حزم: (كانا)؛ أي: ابن عباس، وأبو حبة (يقولان: قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: ثم عَرَجَ)؛ بفتحات، أو بضم الأول، وكسر الثاني؛ أي: صعِد (بي)؛ أي: جبريل (حتى ظهرت)؛ أي: علوت وارتفعت، ومنه قوله: والشمس في حجرتها لم تظهر (لمستوَى)؛ بفتح الواو، المراد به: المصعد، وقيل: هو المكان المستوي، وقال أبو ربيعة: (أستوي: أصعد)، واللام فيه للتعليل؛ أي: علوت لأجل استعلاء مستوى، أو لأجل رؤيته، أو تكون بمعنى: إلى، كما في قوله تعالى: {أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: ٥]؛ أي: إليها، ويجوز أن يكون متعلقًا بالمصدر؛ أي: ظهرت ظهور المستوي.
قلت: فإذا كانت (اللام) بمعنى: إلى؛ يكون المعنى: إني أقمت مقامًا بلغت فيه من رفعة المحل إلى حيث اضطلعت على الكوائن، وظهر لي ما يراد من أمر الله عز وجل وتدبيره في خلقه، وهذا هو المنتهى الذي لا يقدر أحد عليه، ويقال: لام القرض، وإلى الغاية يلتقيان في المعنى.
قلت: قال المحقق الزمخشري في قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [لقمان: ٢٩] : فإن قلت: يجري لأجل مسمًّى ويجري إلى أجل مسمَّى: أهو من تعاقب الحرفية؟
قلت: كلا، ولن يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن، ولكن المعنيين-أعني: الانتهاء والاختصاص- كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض؛ لأنَّ قولك: يجري إلى أجل مسمًّى؛ معناه: يبلغه وينتهي إليه، وقولك: يجري لأجل مسمًّى؛ يريد يجري لإدراك أجل مسمًّى، كذا قرره إمام الشَّارحين.
(أسمع فيه صَريف الأقلام)؛ بفتح الصاد المهملة، وهو تصويتها حال الكتابة، والمراد به: صوت ما يكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره في خلقه سبحانه، لا يعلم الغيب إلا هو الغني عن الاستذكار بتدوين الكتب والاستثبات بالصحف، وأحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، قاله إمام الشَّارحين.
فإن قلت: ما الحكمة في الإسراء؟
قلت: أجيب: بأنه إنَّما كان للمفاجأة، ولهذا كان عن غير مواعدة، وهذا أوقع وأعظم، وكان التكلم مع موسى عن مواعدة وموافاة، فأين ذاك من هذا، وشتان ما بين المقامين، وبين من كلم على الطور، وبين من دعي إلى أعالي البيت المعمور، وبين من سخرت له الريح مسيرة شهر، وبين من ارتقى من الفرش إلى العرش في ساعة زمانية؟!
فإن قلت: فما الحكمة في كون الإسراء كان ليلًا بالنص؟
قلت: أجيب بأوجه:
الأول: أنه وقت الخلوة والاختصاص، ومجالسة الملوك، وهو أشرف من مجالستهم نهارًا، وهو وقت مناجاة الأحبة.
الثاني: أنَّ الله تعالى أكرم جماعة من أنبيائه بأنواع الكرامات، فقال تعالى في حق إبراهيم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: ٧٦]، وفي قصة لوط عليه السَّلام: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} [هود: ٨١]، وفي قصة يعقوب عليه السَّلام: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: ٩٨]، وكان آخر دعائه وقت السحر من ليلة الجمعة، وقرب موسى عليه السَّلام نجيًّا ليلًا، وذلك قوله: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} [طه: ١٠] (١)، وقال: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: ١٤٢]، وقال له لما أمره بخروجه من مصر ببني إسرائيل: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ} [الدخان: ٢٣]، وأكرم نبينا الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم أيضًا ليلًا بأمور؛ منها: انشقاق القمر، وإيمان الجن به، ورأى الصحابة آثار نيرانهم كما ثبت في «صحيح مسلم»، وخرج إلى الغار ليلًا.
الثالث: أنَّ الله تعالى قدم ذكر الليل على النهار في غير ما آية، فقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: ١٢]، وقوله: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: ٤٠]، وليلة النحر تغني عن الوقوف نهارًا.
الرابع: أنَّ الليل أصل، ولهذا كان أول الشهور وسواده يجمع ضوء البصر، ويحد كليل النظر، ويسلتذ فيه بالسمر، ويجتلى فيه وجه القمر.
الخامس: أنه لا ليل إلا ومعه نهار، وقد يكون نهار بلا ليل، وهو يوم القيامة الذي مقداره خمسين ألف سنة.
السادس: أنَّ الليل محل إجابة الدعاء والغفران والعطاء.
فإن قلت: ورد في الحديث: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، ويوم الجمعة».
قلت: قالوا ذاك بالنسبة إلى الأيام.
قلت: ليلة القدر خير من ألف شهر، وقد دخل في هذه الليلة أربعة آلاف جمعة بالحساب الجلي؛ فتأمل هذا الفضل الخفي.
السابع: أن أكثر أسفاره عليه السَّلام كان ليلًا، وقال: «عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل».
الثامن: لينفي عنه ما ادعته النصارى في عيسى عليه السَّلام لما رفع نهارًا من البنوة تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
التاسع: لأنَّ الليل وقت الاجتهاد للعبادة، وكان عليه السَّلام يقوم حتى تورمت قدماه، وكان قيام الليل في حقه واجبًا، وقال في حقه: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ*قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلًا} [المزمل: ١ - ٢]، فلما كانت عبادته ليلًا أكثر؛ أكد بالإسراء فيه، وأمره بقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: ٧٩].
العاشر: ليكون أجر المصدق به أكثر؛ ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارًا، كذا قرره إمام الشَّارحين أيضًا رضي الله عنه.
قلت: وفي هذا دليل على أنَّ الليل أفضل من النهار؛ فليحفظ.
(قال ابن حزم) : المذكور عن شيخيه (و) قال (أنس بن مالك)؛ أي: عن أبي ذر الغفاري، كذا جزم به صاحب «الأطراف»، والظاهر: أنه من جملة مقول ابن شهاب، ويحتمل أن يكون تعليقًا من البخاري، وليس بين أنس وبين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر أبي ذر، ولا بين ابن حزم ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ذكر ابن عباس وأبي حبة، فهو إما من قبيل المرسل، وإما أنه ترك الواسطة اعتمادًا على ما تقدم آنفًا، مع أنَّ الظاهر من حال الصحابي أنه إذا قال: (قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ يكون بدون الواسطة، فلعل أنسًا رضي الله عنه سمع هذا البعض من الحديث من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والباقي سمعه من أبي ذر، كذا قرره في «عمدة القاري».
(قال النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم:
(١) في الأصل: (إذ قال لأهله امكثوا إني آنست نارًا).