أبي أيوب رضي الله عنه، وهو من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، قال: وأهل المدينة من ولد أولئك العلماء الأربع مئة، ويزعم بعضهم: أنَّهم كانوا الأوس والخزرج، ولمَّا خرج عليه السَّلام؛ أرسلوا إليه كتاب تُبَّع مع رجل يسمى أبا ليلى، فلما رآه عليه السَّلام؛ قال: «أنت أبو ليلى، ومعك كتاب تُبَّع الأول»، فبقي أبو ليلى متفكرًا، ولم يعرف النبيَّ عليه السَّلام، فقال: من أنت؟ فإني لم أرَ في وجهك أثر السحر، وتوهم أنَّه ساحر، فقال: «أنا محمد، هات الكتاب»، فلما قرأه؛ قال: «مرحبًا بتبع الأخ الصالح» ثلاث مرات»، وفي «سير ابن إسحاق» : «أنَّ اسمه تبان أسعد أبو كرب، وهو الذي كسا البيت الحرام»، وفي «مغايص الجوهر في أنساب حمير» : «كان يدين بالزبور»، وفي «معجم الطبراني» مرفوعًا: «لا تسبوا تبَّعًا»، وقال الثعلبي بإسناده إلى سهل بن سعد رضي الله عنه: أنَّه قال: سمعت النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: «لا تسبوا تبعًا؛ فإنَّه كان قد أسلم»، وأخرجه أحمد في «مسنده» : «وتُبَّع -بضمِّ المثناة الفوقية، وفتح الموحدة المشددة، آخره عين مهملة- لقب لكلِّ من ملَك اليمن؛ مثل كسرى لقب لكل من ملَك الفرس، وقيصر لكل من ملَك الروم»، وقال عكرمة: «إنَّما سُمي تُبَّعًا؛ لكثرة أتباعه، وكان يعبد النار، فأسلم، قال: وهذا تبع الأوسط، وأقام مَلِكًا ثلاثًا وثلاثين سنة، وقيل: ثمانين سنة»، وقال ابن سيرين: «هو أول من كسا البيت وملك الدنيا والأقاليم بأسرها»، وحكى ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز أنَّه قال: «كان إذا عرض الخيل؛ قاموا صفًّا من دمشق إلى صنعاء»، وهذا بعيد إن أراد به صنعاء اليمن؛ لأنَّ بينها وبين دمشق أكثر من شهرين، والظاهر: أنَّه أراد بها صنعاء دمشق، وهي قرية على باب دمشق من ناحية باب الفراديس، واتصلت حيطانها بالعقيبة، وهي محلة عظيمة بظاهر دمشق، وذكر ابن عساكر في كتابه: «أنَّ تُبَّعًا هذا لمَّا قدم مكة، وكسا الكعبة، وخرج إلى يثرب؛ كان في مئة ألف وثلاثين ألفًا من الفرسان، ومئة ألف وثلاثة عشر ألفًا من الرجالة»، وذكر أيضًا: «أنَّ تُبَّعًا لمَّا خرج من يثرب؛ مات في بلاد الهند»، وذكر السهيلي: «أنَّ دار أبي أيوب هذه صارت بعده إلى أفلح مولى أبي أيوب، فاشتراها منه بعد ما خربت المغيرةُ بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بألف دينار بعد حيلة احتالها عليه المغيرة، فأصلحه المغيرة، وتصدق بها على أهل بيت فقراء بالمدينة») انتهى.
(وكان) أي النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة) فلا يخص مكانًا بصلاته، بل يصلي في أي مكان حضرت الصلاة فيه؛ لأنَّه عليه السَّلام قد جعلت له الأرض كلُّها مسجدًا وطهورًا، فهو من خصائصه دون سائر الأنبياء عليهم السلام، ولأنَّ في ذلك تكثير الشهود للمصلي؛ لأنَّ الأرض تشهد بالصلاة لمن صلى عليها، ففيه: أنَّ المسلم يكره له أن يخصَّ موضعًا للصلاة فيه دون غيره؛ لأنَّ في اختصاصه بموضع مخصوص رياءً وسمعة وغير ذلك؛ فافهم، وهذا أكبر ردٍّ على من اعتاد في زماننا اختيار مكان مخصوص للصلاة وراء الإمام من الشافعية، ويزعم أنَّ الصلاة في الصف الأول خلف الإمام أفضل، فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء، فإنَّ الصف الأول من المشرق إلى المغرب، وكله خلف الإمام، ولكنَّه هو يقصد مكانًا مخصوصًا خلف الإمام حتى يقال: إنَّه رجل صالح متعبد، بل هو طالح مخالف للسنة؛ لأنَّ في ذلك رياء وسمعة، وهو مكروه؛ فافهم.
(ويصلي في مرابض الغنم) جمع مِربِض؛ بكسر الموحدة والميم، بينهما راء مهملة ساكنة، آخره معجمة، والمراد: مأواها، وهو عطف على قوله: (وكان يحب) من عطف الخاص على العام؛ يعني: أنَّه كان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة ولو كان في مرابض الغنم، وعلى هذا؛ فليس يحب الصلاة في مرابض الغنم إلا إذا أدركته الصلاة فيها، وقد يقال: هو عطف على (أن يصلي) والمعنى: وكان يحب أن يصلي في مرابض الغنم، وسبب محبته؛ لأنَّه قد أدركته الصلاة فيها، فالمحبة ليست للمكان، بل لإقامة الصلاة في وقتها؛ محافظة عليها في أول الوقت، وهذا هو الظاهر، فعلى الأول: فقوله: (ويصلي) مرفوع، وعلى الثاني: منصوب عطفًا على (أن يصلي)، وهو الأظهر؛ فافهم.
(وإنَّه)؛ بكسر الهمزة؛ لأنَّه كلام مستقل بذاته؛ وفي «الفرع» : بفتح الهمزة، والجملة مستأنفة أو حال؛ أي: أنَّ النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (أَمر)؛ بفتح الهمزة؛ مبنيًا للفاعل، وفي رواية: بضمِّها؛ مبنيًّا للمجهول، وعلى هذا؛ يكون الضمير في (إنه) للشأن، قاله إمامنا الشَّارح.
(ببناء المسجد)؛ بكسر الجيم وفتحها؛ وهو الموضع الذي يسجد فيه، وفي «الصحاح» : (المسجَد؛ بفتح الجيم: موضع السجود، وبكسرها: البيت الذي يصلى فيه، ومن العرب من يفتح في كلا الوجهين، وعن الفراء: «سمعت المسجِّد؛ بالكسر والفتح، والفتح جائز وإن لم نسمعه»، وقال الزجاج: «كل موضع يتعبد فيه مسجد») انتهى.
(فأرسل) عليه السَّلام (إلى ملأ) أي: جماعة (من بني النجار) وللأربعة: (إلى ملأ بني النجار) بإسقاط كلمة (من) الجارة؛ هم أشرافهم، (فقال) عليه السَّلام لهم: (يا بني النجار) خطاب لبعضهم، وأطلق عليهم باعتبار الشرف والرئاسة؛ (ثامنوني)؛ بالمثلثة بعدها ألف، فميم، فنون، بينهما واو، من ثامنت الرجل في البيع أثامنه: إذا قاولته في ثمنه وساومته على بيعه وشرائه، كذا قاله إمام الشَّارحين في «شرحه على سنن أبي داود»، وزعم ابن حجر أنَّ معناه: (اذكروا لي ثمنه).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ليس دالًّا على المقصود؛ لأنَّ ذكر الثمن لا يدل على البيع، فقد يطلب الرجل ثمن متاعه وليس مقصوده بيعه.
وزعم الكرماني أنَّ معناه: بيعونيه بالثمن.
قلت: وفيه نظر أيضًا؛ لأنَّ المساومة ليس معناها طلب البيع، بل المقاولة على الثمن.
وقال صاحب «التوضيح» : (معناه: قدِّروا لي ثمنه؛ لأشتريه منكم، وبايعوني فيه).
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّ ذكر قدر الثمن ليس يفيد المقصود، بل قد يذكر قدر الثمن ولا يراد البيع، وهذا معنى ما زعمه ابن حجر، فكأنَّه أخذه من كلام صاحب «التوضيح»، ونسبه لنفسه، وإمامنا الشَّارح قد سرد كلام هؤلاء الثلاثة، وقال: (كل ذلك ليس تفسيرًا لموضوع