هذه المادة، والتفسير هو الذي ذكرته) انتهى.
قلت: والمعنى: أنِّي أريد الشراء منكم، فقولوا لي عن ثمنه حتى أشتريه منكم.
(بحائطكم) أي: بستانكم؛ لأنَّ الحائط ههنا: البستان، يدل عليه قوله: (وفيه نخل)، وفي لفظ: (كان مربدًا)؛ وهو الموضع الذي يجعل فيه الثمر؛ لينشف.
قلت: والمعنى واحد.
(هذا) وكان موضع مسجده الشريف النبوي، (قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله) عزَّ وجلَّ؛ أي: من الله؛ كما في رواية الإسماعيلي، وقد جاء في كلام العرب: أنَّ (إلى) بمعنى (من)؛ للابتداء كقوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . ... فلا يروي إليَّ ابن أحمرا
أي: مني، وزعم العجلوني (أنَّه يكون قد تمَّ الكلام عند ثمنه، و «إلا» بمعنى «لكن»؛ أي: لكن الأمر فيه إلى الله).
قلت: وهذا تعسف وبعد عن الظاهر؛ لأنَّ قولهم: (والله لا نطلب ثمنه) يرد ما قاله، فكيف يقول: (قد تم الكلام عند ثمنه)؟ فإنَّهم لم يذكروا له ثمنه، ولم يتمَّ الكلام، وكون (إلا) بمعنى (لكن) غير ظاهر؛ لأنَّها لا تأتي بمعناها، على أنَّ الكلام لا يحتاج إلى استعارتها لمعناها؛ فافهم.
وزعم الكرماني أنَّا لا نطلب ثمنه المصرف في سبيل الله، وأطلق الثمن عليه؛ للمشاكلة.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا تعسف مع تطويل المعنى، بل المعنى: لا نطلب الثمن إلا من الله، كما في رواية الإسماعيلي، ويجوز أن يكون «إلى» ههنا على معناها؛ لانتهاء الغاية، ويكون التقدير: ننهي طلب الثمن إلى الله، كما في قولهم: أحمد إليك الله، والمعنى: أنهي حمده إليك، والمعنى: لا نطلب منك الثمن، بل نتبرع به، ونطلب الثمن؛ أي: الأجر من الله تعالى، وهذا هو المشهور في «الصحيحين»)، قال: (وذكر محمد بن سعد في «الطبقات» عن الواقدي: «أنه عليه السَّلام اشتراه منهم بعشرة دنانير دفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويقال: كان ذلك مربدًا ليتيمين، فدعاهما عليه السَّلام، فساومهما؛ ليتخذه مسجده، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك»، وفي «المغازي» لأبي معشر: «فاشتراه أبو أيوب منهما، وأعطاهما الثمن، وبناه مسجدًا، واليتيمان هما: سهل وسهيل ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو من بني النجار، كانا في حجر أسعد بن زرارة، وقيل: معاذ بن عفراء، وقال معاذ: يا رسول الله؛ أنا أرضيهما، فاتخذه مسجدًا، وقال: إنَّ بني النجار جعلوا حائطهم وقفًا، فأجازه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم»)، كذا قرره إمام الشَّارحين.
قال ابن بطال: (واستدل بهذا على صحة وقف المشاع، وقال: وقف المشاع جائز عند مالك، وهو قول أبي يوسف والشافعي خلافًا لمحمد بن الحسن) انتهى.
قلت: وقف المشاع الذي لا تمكن قسمته؛ كالحمام والبئر جائز عند الإمامين أبي يوسف ومحمد بن الحسن، واختلفا في الممكن قسمته، فأجازه الإمام أبو يوسف، وبه أخذ أئمة بلخ، وأبطله الإمام محمد، فلو وقف أحد الشريكين حصته من أرض؛ جاز، كما في «الإسعاف»، فما زعمه ابن بطال فيه نظر؛ لأنَّ ما ذكره ليس على إطلاقه، ومع هذا قال إمام الشَّارحين: (والصحيح: أنَّ بني النجار لم يوقفوا شيئًا، بل باعوه بالثمن، ووقفه النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وجعله مسجدًا، فليس هو وقف مشاع) انتهى.
(فقال) ولابن عساكر: (قال) (أنس) هو ابن مالك الأنصاري: (فكان فيه) أي: الحائط المذكور (ما أقول لكم)، وكلمة (ما) موصولة؛ بمعنى: الذي، والعائد محذوف تقديره: أقوله لكم، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة (قبور المشركين)؛ بالرفع بدل أو بيان لقوله: (ما أقول لكم)، كذا اقتصر عليه إمام الشَّارحين، وتبعه الشراح.
قلت: ويجوز أن يكون مرفوعًا على أنَّه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو قبور، ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: قبور المشركين فيه، وزعم العجلوني أنَّه يجوز نصبه بـ (أعني).
قلت: الرواية بالرفع، فلا يجوز التجاوز عنها، أمَّا من حيث العربية؛ فيجوز النصب في مثل هذا التركيب، أما هنا؛ فلا يجوز.
(وفيه خرب)؛ بفتح الخاء المعجمة، وكسر الراء المهملة، بعدها موحدة، جمع خربة، كما يقال: كلم وكلمة، وهذا هو الرواية المعروفة، قاله أبو الفرج ابن الجوزي، وقال أبو سليمان: (حدثناه: بكسر الخاء المعجمة، وفتح الراء المهملة، جمع خربة؛ كـ (عنب وعنبة)؛ وهو ما يخرب من البناء في لغة بني تميم، وهما لغتان صحيحتان مرويتان)، قاله إمام الشَّارحين.
قلت: الأولى رواية الأكثرين ههنا، وكذا ضبطه في «سنن أبي داود»، ويجوز أن يكون اسم جمع، والثانية رواية أبي ذر، وزعم الخطابي: (لعل صوابه: خُرب -بضمِّ الخاء المعجمة- جمع خربة؛ وهي الخروق في الأرض، إلا أنَّهم يقولونها في كل ثقبة مستديرة في أرض أو جدار)، قال: ولعل الرواية جرْف -بالجيم- جمع جِرِفَة، وهي جمع جُرُف، كما يقال: حرج وحرجة، وترس ترسة، وأبين من ذلك إن ساعدته الرواية أن يكون حَدَبًا جمع حَدَبَة -بالمهملة- وهو الذي يليق بقوله: (فسويت)، وإنَّما يسوى المكان المحدودب أو موضع من الأرض فيه خروق وهدوم، فأمَّا الخرب؛ فإنَّها تعمر ولا تسوى.
قلت: وهذا غير ظاهر، فإنَّ الخرب هو ما يخرب من البناء، كما مر، ولا ريب أنَّ الخرب تبنى وتعمر وتسوى حتى تصير مستوية؛ كالأرض الملسة، ولهذا اعترضه صاحب «المصابيح»، فقال: (وما ذكره ليس بشيء؛ لأنَّ خربًا لا يمنع تسويتها؛ لاحتمال أن يكون فيها بناء تهدم، ونقض منع من اصطحاب الأرض واستقرائها، ولا يدفع الرواية الصحيحة بما قاله) انتهى.
واعترضه أيضًا القاضي عياض قال: لا حاجة إلى هذا التكليف، فإنَّ الذي ثبت في الرواية صحيح المعنى، كما أمر بقطع النخل؛ لتسوية الأرض؛ أمر بالخرب، فرفعت رسومها، وسويت مواضعها؛ لتصير جميع الأرض مبسوطة مستوية للمصلين، وكذلك فعل بالقبور، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح: (فأمر بالحرث، فحرث)، وهو الذي