للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

زعمه ابن الأثيرأنَّه روي بالحاء المهملة والثاء المثلثة، يريد: الموضع المحروث للزراعة، انتهى.

قال إمام الشَّارحين: (وفي رواية الكشميهني: «حَرْث»؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء بعدها مثلثة، ولكن قيل: إنه وهم) انتهى.

قلت: الذي قال: (إنَّه وهم) ابن حجر، وهو من انتهاء الجهالة إليه، وعدم تعرفه في المعاني، فإنَّ هذه الرواية هي رواية حماد بن سلمة عن أبي التياح، وكذلك هي في رواية ابن أبي شيبة، كما سبق قريبًا، والمعنى عليه صحيح؛ لأنَّ الحرث؛ بالمهملة والمثلثة: الموضع المحروث للزراعة، كما قاله ابن الأثير، فيكون المراد: أنَّه أمر بتسوية موضع الحرث وبسطها متسوية للمصلين، وقال ابن الأثير: (قد روي بالحاء المهملة والمثلثة) كما مر، وعلى هذا؛ فلا وهم في هذه الرواية، إنَّما الواهم ابن حجر، وقد علل كلامه بأنَّ رواية البخاري عن عبد الوارث عن أبي التياح لا من رواية حماد عنه.

قلت: وهذا تعسف وبُعْدٌ عن الظاهر، فإنَّه لا يلزم من رواية المؤلف عن عبد الوارث أنَّه تكون رواية حماد عنه وهمًا (١)؛ لأنَّ الشيخ واحد وهو أبو التياح، فروى عنه حماد: أنَّه بالمهملة والمثلثة، وروى عنه عبد الوارث: بالمعجمة والموحدة، وهذا لا مانع منه، فيحتمل أنَّ عبد الوارث روى عنه هكذا وهكذا، فأخذ الكشميهني بالمهملة والمثلثة، وهذا ليس فيه وهم، وقد نقل عبارته العجلوني، ولم يعترضه؛ لأنَّه يتعصب له دائمًا أبدًا، وإمامنا الشَّارح لم يعترضه من أدبه وحفظه وعلمه بأنَّ الرواية ثابتة، فلا حاجة إلى ردِّ ما يقال فيها؛ فافهم.

(وفيه نخل) أي: في الحائط المذكور، وزعم العجلوني أي: في الخرب.

قلت: وهو تعسف بعيد؛ لأنَّ الخرب لا يزرع عليها نخل ولا غيره، فهي محتاجة للتعمير والبسط، فكيف قال هذا القائل هذا الكلام الذي هو صادر عن غير تأمُّل؟

(فأمر النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم بقبور المشركين) متعلق بـ (أمر)؛ يعني: التي في الحائط، (فنبشت)؛ أي: حفرت وغُيِّبت عظامها، وزعم العجلوني أي: أخرجت العظام ورميت في غير موضع.

قلت: هذا بإطلاقه ممنوع، فإن كان مراده أنَّ العظام أخرجت ودفنت في موضع آخر؛ فمسلم أنَّه جائز، وإن كان مراده إخراجها ورميها غير مدفونة؛ فغير جائز، والظاهر: أنَّ هذا مراده؛ لأنَّ قوله: (ورُميت) معناه: أُلقيت غير مدفونة، وهذا غير جائز؛ لأنَّ أجزاء الآدمي ولو كافرًا محترمةٌ، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: ٧٠]، وإكرامه: دفنه تحت الأرض، كما لا يخفى، (ثم) أمر عليه السَّلام (بالخِرَب)؛ بكسر المعجمة وفتح المهملة، أو بفتح المعجمة وكسر المهملة، (فسُوِّيت)؛ يعني: ألقي عليها التراب وغيره حتى بسطت، وسُطِّحت، وصارت سهلة، وليس معناه: أزيل ما كان فيها، كما زعمه العجلوني؛ لأنَّ الخرب خروق وفرج في الأرض، وليس فيها شيء حتى يزال، بل تحتاج إلى وضع تراب أو مدر حتى تبسط، كما لا يخفى؛ فافهم.

(و) أمر عليه السَّلام (بالنخل، فقطع) أي: من أصله حتى لا ينبت، فيؤذي المسجد، (فصفوا النخل قبلة المسجد) من صففت الشيء صفًّا: إذا وضعته مصفوفًا؛ أي: جعلوا موضع النخل جهة القبلة للمسجد، وقيل: المعنى: جعلوا النخل في جهة قبلة المسجد.

قال إمام الشَّارحين: (وفي «مغازي ابن أبي بكر»، عن ابن إسحاق: جعل قبلة المسجد من اللَّبِن، ويقال: من حجارة منضودة بعضها على بعض)، وسيأتي في «الصحيح» : (أن المسجد كان على عهده عليه السَّلام مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعمده خشب النخل، ولم يزد فيه أبو بكر شيئًا...)؛ الحديث.

قال إمام الشَّارحين: ولعل المراد بالقبلة: جهتها لا القبلة المعهودة اليوم، فإنَّ ذلك لم يكن ذلك الوقت، وورد أيضًا: أنَّه كان في موضع المسجد الغرقد، فأمر أن يقطع، وكان في المربد قبور جاهلية، فأمر بها عليه السَّلام، فنُبشت، وأمر بالعظام أن تُغيَّب، وكان في المربد ماء مستنجل، فسيَّروه حتى ذهب، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مئة ذراع، وفي هذين الجانبين مثل ذلك، فهو مُرَبع، ويقال: كان أقلَّ من المئة، وجعلوا الأساس قريبًا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة، ثم بنوه باللَّبِن، وجعل النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم ينقل معهم اللَّبِن والحجارة بنفسه، ويقول:

هذا الجمال لا جمال خيبر (٢) ... هذا أبر ربنا وأطهر

وجعل عليه السَّلام قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: بابًا في مؤخره، وبابًا يقال له: باب الرحمة؛ وهو الباب الذي يدعى باب العاتكة، والثالث: الذي يدخل منه عليه السَّلام؛ وهو الباب العثماني، وجعل طول الجدار قامة وبسطة، وعُمُده الجذوع، وسقفه جريدًا، فقيل له: ألا تسقفه، فقال: «عريش كعريش موسى خَشيبات»، وتمام الأمر أعجل من ذلك، وسيجيء في الكتاب عن ابن عمر أنَّ المسجد كان على عهده عليه السَّلام مبنيًّا باللَّبِن، وسقفه الجريد، وعُمُده خشب (٣) النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهده عليه السَّلام باللبن والجريد، وإنَّما دعمه خشبًا، ثمَّ غيره عثمان بن عفان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بحجارة منقوشة، وجعل عمده حجارة منقوشة وسقفه بالساج، وفي «الإكليل» : (ثمَّ بناه الوليد بن عبد الملك في إمرة عمر بن عبد العزيز)، وفي «الروض» : (ثمَّ بناه المهدي، ثم زاد فيه المأمون، ثمَّ لم يبلغنا تغيره إلى الآن) انتهى.

قلت: وقد بلغني تغيره، وهو أنَّ السلطان عبد المجيد بن محمود العثماني قد زاد فيه زيادة كثيرة، وبناه بالحجارة المرمر، وفتح له بابًا سماه: الباب المجيدي، وإذا شاء الله تعالى أن يتفضل عليَّ بالزيارة؛ نحقق ذلك بمنه تعالى وكرمه.

(وجعلوا عضادتيه الحِجَارة)؛ بكسر الحاء


(١) في الأصل: (وهم)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (خبير)، وهو تحريف.
(٣) في الأصل: (الخشب)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>