للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

محذوف.

روي أنه قال له الخضر: كفى بالتوراة علمًا وببني إسرائل شغلًا، فقال له موسى: إن الله أمرني بهذا، و (من) في (مما علمت) للتبعيض، فطلب تعليم بعض ما علِّم، كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساويًا لك في العلم؛ بل أطلب منك أن تفيدني بعض ما علِّمت.

قال البيضاوي: ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطًا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقًا، وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعًا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه، انتهى.

وقال الإمام الزمخشري: لا غضاضة بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله، وإنما يغضُّ منه أن يأخذ ممن دونه، قال الكرماني: هذا الجواب لا يتم على تقدير ولا يته.

أجاب في «عمدة القاري» : بأن الزمخشري قائل بنبوته كما ذهب إليه الجمهور؛ بل هو رسول وينبغي اعتقاد ذلك؛ لئلَّا يتوسل به أهل الزيغ والضلال والفساد من المبتدعة الملاحدة في دعواهم أن الولي أفضل من النبي نعوذ بالله من ذلك.

وقال ابن حجر: هذا الجواب فيه نظر؛ لأنَّه يستلزم نفي ما أوجب.

وأجابه في «عمدة القاري» : بأن هذه الملازمة ممنوعة فلو بين وجهها؛ لأجيب عن ذلك، والله تعالى أعلم؛ فافهم.

(قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ لأنك ترى أمورًا منكرة بحسب الظاهر ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات، (يا موسى؛ إنِّي على علم من علم الله علمنيه) (من) للتبعيض، والجملة من الفعل، والفاعل، والمفعولين أحدهما: ياء المفعول والثاني: الضمير الذي يرجع إلى العلم، محلها الجر صفة لـ (علم)، (لا تعلمه أنت) : صفة أخرى، فالأولى من الصفات الإيجابية والثانية من الصفات السلبية.

(وأنت على علم) : مبتدأ وخبر عطف على قوله: (إني على علم)، (علمك الله) : جملة من الفعل، والفاعل، والمفعول الثاني محذوف تقديره: علَّمك الله إياه، والجملة صفة لعلم، وفي رواية: (علمكه الله) بهاء الضمير الراجع إلى العلم، (لا أعلمه) : صفة أخرى، وهذا لا بدَّ من تأويله؛ لأنَّ الخضر كان يعرف من علم الشرع ما لا غنى للمكلف عنه، وموسى كان يعرف من علم الباطن ما لا بدَّ منه، كما لا يخفى، قاله القسطلاني.

(قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا)؛ بالنصب مفعول ثاني لـ (ستجدني)، وقوله: (إن شاء الله) معترض بين المفعولين؛ أي: غير منكر.

وفيه: دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى خلافًا للمعتزلة.

(ولا أعصي لك أمرًا) : في محل نصب عطفًا على (صابرًا)؛ أي: ستجدني صابرًا وغير عاصٍ، وتعليق الوعد بالمشيئة إما للتيمن أو لعلمه بصعوبة الأمر؛ فإنَّ مشاهدة الفساد والصبر على خلاف المعتاد شديد بلا خلف، أفاده البيضاوي وغيره.

(فانطلقا) على السَّاحل حال كونهما، (يمشيان على ساحل البحر ليس لهما سفينة)؛ أي: مركب، وأول من أحدثه نوح عليه السلام قبل الطوفان، فكان كل يوم يشتغل بها فيأتي قومه بالليل فيخرِّبوها، فيأتي نهارًا يجدِّدها إلى أن خلق الله له الكلاب تحرسها إلى أن تمَّت وركب فيها.

(فمرت بهما سفينة) : (فعيلة)؛ بمعنى: (فاعلة) كأنها تسفن الماء؛ أي: تقشره وتشقه، (فكلموهم)؛ أي: كلَّم موسى والخضر أصحاب السفينة، والجمع إمَّا للتعظيم أو لما فوق الواحد، وما قيل: إنهم ثلاثة موسى، والخضر، ويوشع؛ يردُّه تثنية الضمير في (فانطلقا يمشيان ليس لهما، فمرت بهما) فإنه راجع إلى موسى والخضر؛ فليحفظ.

(أن)؛ أي: لأن، (يحملوهما)؛ أي: لأجل حملهم إياهما معهم فيها، (فعُرف)؛ بضم العين، (الخضر)؛ أي: عرف أهل السفينة الخضر كأنه معلوم عندهم يرونه في بعض الأوقات، لما روي عن النبي الأعظم عليه السلام أنه قال: «كان الخضر ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فلم يقبل وهرب منه ولحق بجزائر البحر، فطلبه أبوه فلم يقدر عليه»، كذا في «حواشي شيخ زاده».

(فحملوهما)؛ أي: موسى والخضر، (بغير نَول)؛ بفتح النون؛ أي: بغير أجرة، والنول بالواو: الجعل، وأما يوشع؛ فإنه لم يركب معهما، فتركاه قبيل الصخرة؛ لأنَّه لم يقع له ذكر بعد ذلك، وما قيل: إنه روي: (فحملوهم)؛ بالجمع وهو يقتضي أنه ركب معهم: ممنوع بإعادة ضمير التثنية فيما سبق عليهما، أو للتعظيم، أو لما فوق الواحد؛ فافهم.

(فجاء عُصفور)؛ بضم العين طير مشهور سمي به؛ لأنَّه عصى وفر، وقيل: إنه الصرد، (فوقع على حرف) طرف، (السفينة فنقر نقرةً)؛ بالنصب على المصدرية، (أو نقرتين) عطف عليه، (في البحر)؛ أي: شرب منه، وهو يدل على أن البحر عذب؛ لأنَّ الملح لا يشربه الحيوان بأنواعه.

(فقال الخضر) حين رأى نقرة العصفور، وقد رآها موسى أيضًا، (يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله)؛ أي: معلوماته، (إلا كنقرة هذا العصفور في البحر)، وعند المؤلف: (ما علمي وعلمك في جنب الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر)؛ أي: في جنب معلوم الله، فيطلق العلم ويراد به المعلوم، من إطلاق المصدر وإرادة الفعل، وقيل: إن (إلا)؛ بمعنى: ولا، كأنه قال: ما نقص علمي وعلمك ولا ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر؛ لأنَّ علم الله لا ينقص بحال، وقيل: (نقص)؛ بمعنى: أخذ؛ لأنَّ النقص أخذ خاص، والمقصود منه التشبيه في القلة والحقارة لا المماثلة في كل الوجوه، كما بسطه في «عمدة القاري».

(فعمَد)؛ بفتح الميم، كضرب، (الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه)، وعند المؤلف: (فوتد فيها وتدًا)، وجاء أيضًا: (فعمد إلى قدوم فخرق به)، وقيل: (أخذ فأسًا فخرق لوحًا حتى دخلها الماء فحشاها موسى بثوبه)، والذي ذكره المفسرون أنه قلع لوحين مما يلي الماء ولعلَّه كان شقين.

(فقال) له (موسى) عليه السلام: هؤلاء (قومٌ) : مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ما علمت، أو هم قوم، (حملونا) : جملة صفة لـ (قوم)، (بغير نَول)؛ بفتح النون: الجعل، والمراد به الأجرة، (عمَدت)؛ بفتح الميم، (إلى سفينتهم فخرقتها لتُغرِق)؛ بضم الفوقية وكسر الراء، على الخطاب مضارع أغرق؛ أي: لأنَّ تغرق (أهلهَا)؛ بالنصب على المفعولية، وفي رواية: (لتَغرَق)؛ بفتح الفوقية وفتح الراء، على الغيبة مضارع غرق، و (أهلُها)؛ بالرفع على الفاعلية.

(قال) له الخضر: (ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرًا)؛ فذكره بما قال له من قبل، (قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت)؛ أي: بالذي نسيته، أو بشيء نسيته؛ يعني: وصيته بأن لا يعترض عليه، أو بنسياني إياها، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها، وقيل: أراد بالنسيان: الترك؛ أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة.

فإن قلت: قول الخضر: (إنك لن تستطيع معي صبرًا)، وقول موسى: (ستجدني إن شاء الله صابرًا) يستلزم صدور الكذب من أحدهما، فإن كل واحد من القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وصدوره من أحدهما ينافي عصمة الأنبياء.

قلت: وأجيب: بأنه لم يحصل صدور الكذب من واحد منهما، أما من الخضر؛ فلتحقق عدم الصبر من موسى باستخباره عما رأى من الخضر وأنكره نظرًا لظاهره، وأما من موسى؛ فإنه قد استثنى في جوابه (وقال: ستجدني إن شاء الله صابرًا) فإن التعليق بالمشيئة يدفع الحنث وينافي الكذب، كمن قال لآخر: آتيك غدًا إن شاء الله تعالى، ولم يأته في الغد لا يكون كذبًا.

وقال ابن عباس: لما خرق الخضر السفينة؛ تنحى موسى بناحية ثم قال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل كنت أتلو في بني إسرائيل كتاب الله غدوة وعشية وآمرهم فيطيعون، فقال له الخضر: يا موسى تريد أن أخبرك بما حدَّثت به نفسك، قال: نعم، قال: قلت: كذا وكذا، قال: صدقت، زاد في رواية أبي ذر: (ولا ترهقني من أمري عسرًا)؛ أي: ولا تغشني عسرًا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي، فإن ذلك يعسر علي متابعتك، (فكانت) المسألة، (الأولى من موسى) عليه السلام، (نسيانًا)؛ بالنصب خبر كان.

وقال ابن عباس: إنَّما سمي الإنسان إنسانًا؛ لأنَّه عهد إليه فنسي، وفي رواية: (نسيانُ)؛ بالرفع على أن (كانت) : تامة، و (الأولى) : مبتدأ، و (نسيان) : خبره، أو يكون (كانت) : زائدة والتقدير: فالأولى من موسى نسيان، (فانطلقا)؛ أي: موسى والخضر بعد خروجهما من السفينة.

(فإذا) : للمفاجئة، (غلام)؛ بالرفع

<<  <   >  >>