للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[المقدمة]

إن اللغة العربية الفصحى، لغة الشعر القديم ولغة القرآن والحديث، لم تعش إلا نحوا من مائتي سنة. ففي نهاية القرن الأول الهجري، وقبل أن يكون للعرب أدب جديد، أصاب اللغة كثير من التغيير أخذ يزداد شيئا فشيئا. وقد كان هذا نتيجة الفتوحات السريعة، فتوحات تشبه المعجزات فتحها المسلمون أتباع الرسول. فلم تبق العربية لغة العرب وحدهم، وإنما أصبحت لغة البلدان المفتوحة، وقد كان لمخالطة الشعوب المغلوبة التي بدأت تتكلم اللغة العربية وتلحن في كلامها، أثر في العرب أنفسهم. فقد أهملوا إعراب الكلام، واستعملوا الكلمات بمعان محرفة عن معانيها، واستعاروا من الشعوب المغلوبة، من أهل الشام، ومن الفرس، ومن الأقباط، والبربر، والأسبان والأتراك كثيرا من الألفاظ والعبارات. إن هذا الاختلاط لم يكن السبب الوحيد، بل لم يكن السبب الرئيس لتغير اللغة وإنما يجب أن نفتش عنه في الحالة الجديدة التي صار إليها الفاتحون أنفسهم. لقد كانوا قبل الفتح بدوا أو من سكان القرى الصغيرة يحيون حياة بسيطة، فوجدوا أنفسهم بعد الفتح قد انتقلوا إلى عالم كل شيء فيه جديد عليهم، وجدوا أنفسهم في أحضان مدن كبيرة تسود فيها حياة الترف والبذخ، وتزخر بالحضارات القديمة، حضارة الروم والفرس، ولم يمض عليهم غير قليل، ونقول هذا إنصافا لهم، حتى أخذوا يتعلمون من رعاياهم الجدد، فبدءوا يدرسون بحماسة وشوق الفنون والعلوم التي كانت غريبة عنهم، فحدث تغيير كامل في أفكارهم وفي عاداتهم، وكان لابد أن تتأثر لغتهم بهذا الانتقال الفجائي من حياة بدوية نصف بربرية إلى حضارة ناعمة يسود فيها الترف. لقد افتقرت لغتهم من ناحية واغتنت من ناحية أخرى، فقد أهمل فيها هذا الفيض الزائد من الكلمات التي تزدحم بها العربية الفصحى، ولعل هذا المهمل منها كان ثلث اللغة، وهي كلمات تعبر عن الأفكار البدوية إذا صح هذا القول، مع العلم أن الكثير منها لم يكن شائع الاستعمال في أي زمان. وقد وضعوا مقابل ذلك، تساعدهم عبقرية لغتهم، ألفاظا جديدة للتعبير عن الأشياء والأفكار التي كانوا يجهلونها من قبل، أو غيروا في معاني الكلمات القديمة. وقد حصل هذا التغيير في البلدان التي كان يسود فيها العرب ولكن على درجات مختلفة. ثم تجزأت الإمبراطورية العربية، وقد ساعد هذا التجزؤ من غير شك على الإسراع في نشوء اللهجات المحلية حتى أصبح لكل إقليم لغته الخاصة.

ولم يحصل هذا التغيير دون أن يلاقي مقاومة عنيفة من الحريصين على صفاء اللغة وصحتها، وأعني بهم النحاة، واللغويين، والمتكلمين، والفقهاء، الذين لم يقبلوا أن يدرسوا لغة أخرى غير اللغة الفصحى، أنهم وقد أنكروا طبيعة الأشياء ولم يفهموا ولم يريدوا أن

<<  <  ج: ص:  >  >>