قطيعة إلى مدّة، وقصدوا نظرة من شدة وانتظارا لنجدة؛ فعرفهم الخادم في لحن القول، وأجابهم بلسان الطول، وقدّم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها؛ فصافحت السور بأكنافه، فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك، وقدّم النصر نشرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض ويعلو علوّه إلى السماك، فشجّ مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها [صمّ أعلاجها] ورفع مثار عجاجها، فأخلى السور من السيّارة، والحرب من النظارة؛ فأمكن النقّاب، أن يسفر للحرب النّقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته [الأولى] من التراب؛ فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده يأنياب معوله، وحلّ عقده بضربه الأخرق الدالّ على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترقّ لمقبّله، وتبرّأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقا فلن تبرح الأرض، وفتح في السور بابا سدّ من نجاتهم أبوابا، وأخذ ينقّب في حجره فقال عنده الكافر:{يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً،} فحينئذ يئس الكفّار من أصحاب الدور، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرّهم بالله الغرور.
وفى الحال خرج طاغية كفرهم، وزمام أمرهم، ابن بارزان سائلا أن يؤخذ البلد بالسلام لا بالعنوه، وبالأمان لا بالسّطوه، وألقى بيده إلى التهلكه، وعلاه ذلّ الملكة بعد عزّ المملكة، وطرح جبينه في التراب، وكان جبينا لا يتعاطاه طارح، وبذل مبلغا من القطيعة لا يطمح إليه طرف آمل طامح، وقال: هاهنا أسارى مؤمنون يتجاوزون الألوف، وقد تعاقد الفرنج على أنهم إن هجمت عليهم الدار، وحمّلت الحرب على ظهورهم الأوزار، بدى بهم فعجّلوا وثنّى بنساء الفرنج وأطفالهم فقتّلوا؛ ثم استقتلوا بعد ذلك فلم يقتل خصم إلا بعد أن ينتصف، ولم يسلّ سيف من يد إلا بعد أن تنقطع أو ينقصف، وأشار الأمراء