للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المنافع، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا، مع أنها موصوفة ومعروفة بكونها سجنًا، فكيف حال الجنة التي جعلتها دار القرار والنعيم الأبدي؟ وكذلك جعلت باطن هذه الأرض نارًا تلظى، وأقمت شاهدًا عليها البراكين، وهي الجبال التي تقذف من جوفها نارًا، وهذه النار تذيب المعادن وتنضجها، فكيف حال النار التي جعلتها دار المستقر والعذاب؟

فالحاصل: أن الأرض أمك بل أشفق من الأم، لأن الأم تسقيك لونًا واحدًا من اللبن، والأرض تطعمك ألوانًا ربما لا تقدر على استقصائها، ثم أكد أنها أعظم من الأم بقوله في مكان هذا: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)} [طه].

ومعناه: نردكم إلى هذه الأم، ثم نخرجكم منها مرة ثانية، وهذا ليس بوعيد، لأن المرء لا يوعد بأمه، وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض، ثم إنك مكثت في بطن الأم تسعة أشهر، فما مسّك جوع ولا عطش، فكيف إن دخلت بطن الأم الكبرى، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى، كما كنت في بطن الأم الصغرى، ما كانت لك زلة فضلًا عن أن تكون لك كبيرة، بل كنت مطيعًا لله بحيث دعاك مرة أخرى إلى الخروج إلى الدنيا، فخرجت إليها بالرأس طاعة منك إلى ربك، واليوم يدعوك للانقياد له، وإفراده بالوحدانية، وأنت تتلاهى عنه وربما اتخذت إلهًا غيره، وعظمت ذلك الغير حتى أردت أن تجعله مكانه، فناداك وخاطبك بهذه الآي وغيرها لعلك تنتبه من رقدتك.

ثم بسط لك الدليل فأعلمك بما يكون من شبه الاتصال (١) بين السماء والأرض، بإنزال الماء من السماء على الأرض، وإخراج ما في بطنها به مما يشبه النسل الحاصل من الحيوان، من أنواع الثمرات رزقًا لبني آدم ليتفكروا في أنفسهم، وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ويعرفوا أن شيئًا من هذه الأشياء لا يقدر على


(١) لم تكن واضحة في الأصل وقدرتها كذلك.

<<  <   >  >>