للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السلوك في طريق الحق، كل من أظهر التقى والصلاح، ليوقع الناس في شباك مكره وحيلته، وكل من دلس عليهم، يبتغي الاستفادة من أموالهم سفهًا وظلمًا، فذلك خاسر في تجارته، غير مهتد إلى سواء، متصف بأوصاف المنافقين، أولئك الذين كانوا يقفون عقبة، أمام ترقي النوع الإنساني ليستفيدوا جر مغنم خاص إليهم، ولا يبالون بهلاك غيرهم، لأن الشرائع لم تأتِ إلى البشرية لترقي ذلك النوع، وتفيض عليه أنواع العلوم بخالقه، وبما يرشده إلى سلوك سبيل الهدى في معاشه ومعاده، ليكون سعيدًا في الدارين.

فإذا صادمها مصادم، أو صادَّها صاد، كان خارجًا عن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فوجه الله اللوم إليه وغمره بعظيم عقابه، وخيب مساعيه، وكان مثله ومثل من هم على شاكلته، كما أخبر تعالى بقوله:

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (١٧)}.

ضرب الأمثال في الكلام نوع عال من أنواع البلاغة، وكلما كان المثل مطابقًا لمقتضى الحال، ارتقى الكلام رتبة في درجات البلاغة، لأن الأمثال تؤثر في القلوب، ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، لما فيها من تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقًا للعقل، ألا ترى أن الإيمان، إذا مُثل بالنور، يتأكد وقوعه في القلب، تأكدًا لا يكون كذلك إذا ذكر مجردًا بدون تشبيه؟ وأن الكفر إذا ذكر مجردًا عن التمثيل لم ينفر القلب منه، مثل نفرته عنه إذا شبه بالظلمة؟ ولا تتأكد النفرة مثل تأكدها إذا مثل بها؟ ولهذا مثل تعالى حالة المنافقين في تحيرهم وتلاعبهم، وما هم عليه من الأحوال العجيبة الشأن بحالة الذي استوقد نارًا، ولما كانوا بأجمعهم متفقين على حالة واحدة، ومسلك واحد من النفاق، وسالكين قانونًا واحدًا لا يتجاوزونه، عُدَّ فعلهم كانه فعل رجل واحد منهم، فمثل بحالة شخص استوقد نارًا، وهو نوع من البلاغة يعد في طبقة الإعجاز، وأشار إلى ذلك بقوله: {مثلهم} فكان المعنى: أن مثلهم في أفعالهم، وأحوالهم التي وإن تعدد الفاعلون لها كانت لاتفاقهم عليها،

<<  <   >  >>