ومن جملة الذين استخدموا أفكارهم في معرفة بدائع خلق السموات والأرض، وما في الأولى من الكواكب، علماء الهيئة، فلما نظروا في شكل الأرض اختلفوا على قولين: الأول: أنها مسطحة، والثاني: أنها كروية الشكل.
واستدل أصحاب القول بالكروية فقالوا: هي كروية من جهة الطول ومن جهة العرض، أما من جهة الطول فيما بين المشرق والمغرب، فلأن البلاد المتوافقة في العرض، أو التي لا عرض لها، كلما كانت أقرب إلى الغرب، كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متاخرًا بنسبة واحدة، وكذا الحال في الغروب، ولا يعقل ذلك التأخر في الطلوع والغروب بتلك النسبة، إلا في الكرة، ودليل هذا المدعي أننا لما رصدنا خسوفًا بعينه في وقت من الليل، وجدناه في بلاد شرقية مثلًا آخر الليل. وفي بلاد غربية تبعد عنها بنحو ألف ميل. قبل آخر الليل بساعة، وفي بلاد تبعد عنها إلى الغرب بالف ميل أيضًا، قبل الأول بساعتين، وقبل الثاني بساعة، وعلى هذا القياس فعلمنا أن طلوع الشمس على الغربية متأخر بنسبة واحدة، وأما كُرويتها من جهة العرض فيما بين الشمال والجنوب، فلأن السالك في الشمال كلما توغل فيه ازداد القطب ارتفاعًا عليه، بحسب إيغاله فيه، على نسبة واحدة، حتى يصير بحيث يراه قريبًا من سمت راْسه، ولذلك تظهر له الكواكب الشمالية التي كانت مختفية عليه، وتختفي عنه الكواكب الجنوبية التي كانت ظاهرة عليه، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك.
وأما فيما بين الطول والعرض، فإن السالك فيما بين الشرق والشمال، يتقدم عليه الطلوع بمقدار قربه من المشرق، ويزداد ارتفاع القطب عليه بمقدار وغوله في الشمال، وقس على هذا حال السالك فيما بين المغرب والشمال، وحال السالك في السمتين المقابلين لهما.
ومن الأدلة أيضًا، أن الدليل التجريبي دل على أن غاية الأشكال التدوير، وهوالشكل الطبيعي للمادة، وعلى أن كل شيء مائل بطبعه للشكل الكروي ما لم يعرض عليه سبب خارجي يؤثر فيه، إلى غير ذلك من الأدلة الواضحة الدالة على كرويتها، مما ترى كثيرًا منها أثناء هذا الكتاب؛ وقال المعارضون: إن على سطح