للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

روى أبو العالية: أن بني إسرائيل كانوا إذا استضعفوا قومًا أخرجوهم من ديارهم، ولما كان من المستبعد جدًّا بعد الاستبعاد الأول أن يقعوا في ذلك على طريق العدوان، استأنف ذلك بقوله: {تَظَاهَرُونَ} أي: تتعاونون وتتناصرون {عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ}، وهو أسوأ لاعتدائه في قول أو فعل أو حال، ويقال للكذوب: أثوم لاعتدائه بالقول على غيره، وقيل: الإثم هو الَّذي تنفر منه النفس ولا يطمئن له القلب، وهذا القول أولى لأنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - فسر الإثم بقوله: "والإثم ما حاك في القلب، وكرهت أن يطلع عليه الناس" (١).

على أن القولين عند التحقيق يرجعان لمعنى واحد، لأنَّ الاعتداء والكذب لا يطمئن لهما القلب، ويخشى صاحبهما من اطلاع الناس على حاله وانكشافه لهم، {وَالْعُدْوَانِ} هو تجاوز الحد في الظلم، {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ} أي: هؤلاء الذين تعاونتم أو عاونتم عليهم {أُسَارَى} جمع أسرى، وهو جمع أسير، وأصله المشدود بالأسر، وهو "القد" وهو ما يقد أي: يقطع من السير، {تُفَادُوهُمْ} أي: تخلصوهم بالمال، مأخوذ من الفداء، وهو الفكاك بعِوَض، وتفادوهم من المفاداة وهي الاستواء في العوضين، ثم أكد تحريم الإخراج بزيادة لفظ "هو" والجملة الاسمية في قوله: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} مأخوذ من التحريم، وهو تكرار الحرمة بكسر الحاء، وهي المنع من الشيء لدناءته، والحُرمة بالضم المنع من الشيء لعلوه، ولما كان المتقدم أربعة أشياء: قتل النفس، والإخراج من الديار، والتظاهر بالإثم والعدوان، والمفاداة، وكلها محرمة، خصص الإخراج من الديار بقوله: {إِخْرَاجُهُمْ}، لأنَّه أعظم إخوانه، لأنَّ الإخراج من الديار فيه من معرة الجلاء، والنفي ما لا ينقطع شره إلا بالموت، بخلاف القتل فإنه وإن كان فيه هدم البنية لكنه ينقطع به الشر دفعة واحدة، وبخلاف المفاداة فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر، لأنَّه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ما وقعوا في قيد الأسر.

ثم إنه تعالى أنكر عليهم التفرقة بين الأحكام، فقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} أي: التوراة وهو الموجب للمفاداة، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، وهو المحرم


(١) الحديث بنحوه في "صحيح الجامع الصغير" ٢٨٨٠.

<<  <   >  >>