للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

خالقه، لكان مساويًا له، في صفة العلم، ولما كانت الصنعة لا يمكن أن تدرك حقيقة صانعها، وكانت المساواة بالفاعل المختار مستحيلة، كانت مساواة المخلوق لخالقه في صفة العلم، وفي غيرها من صفاته تعالى مستحيلة أيضًا، وكان العلم بحقيقة الخالق من المستحيل أيضًا، وما على المخلوق إلا أن يثبت لخالقه ما أثبته من الصفات لنفسه، وما أثبته له رسله قائلًا عما وراء ذلك من حقائقها: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}، يا من له التنزيه عن أن يحيط أحد بعلمه، ومن ثم قال أبو جعفر الطبري: وفي هذه الآيات الثلاث العبرة لمن اعتبر، والذكرى لمن يتذكر، والبيان {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧)} [ق: ٣٧]. [كما] (١) أودع سبحانه وتعالى في هذا القرآن من لطائف الحكم التي تعجز عن أوصافها الألسن، وذلك أن الله جل ثناؤه احتج فيها لنبيه، على من كان بين ظهرانيه من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه إياه من علوم الغيب الذي لم يكن جل ثناؤه أطلع عليها من خلقه إلا الخواص، ولم يكن مدركًا علمه إلا بالإنباء والإخبار، لتتقرر عندهم صحة نبوته، ويعلموا أن ما أتاهم به إنما هو من عنده، ودل فيها على أن كل مخبر بخبر عما قد كان- أو عما هو كائن، مما لم يكن ولم يأته به خبر، ولم يوضع له على صحته برهان- فمتقول ما يستوجب به من ربه العقوبة، ألا تسمعون الله جل ذكره رد على الملائكة قيلهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٣٠)}، وعرفهم أن قيل ذلك، لم يكن جائزًا لهم، بما عرفهم من قصور علمهم عند عرضه ما عرض عليهم من أهل الأسماء، فقال: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣١)}، فلم يكن لهم مفزع إلا الإقرار بالعجز والتبري إليه، إلا ما علمهم بقولهم: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}. فكان في ذلك أوضح الدلالة وأبين الحجة على كذب مقالة كل من ادعى شيئًا من علوم الغيب، من الحُزاة والكهنة والعافة (٢) والمنجمة، وذَكر بها الذين


(١) زيادة من الطبري.
(٢) في الأصل "القافة" تبعًا لمطبوعات تفسير الطبري القديمة، وصححها الشيخ الفاضل محمود شاكر في تحقيقه النفيس لتفسير الطبري فقال: وفي المطبوعة "والقافة" مكان "والعافة" وهو خطأ بيّن.

<<  <   >  >>