لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: المصرح به في قولكم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} المشار إلى صدق الدعوى فيه، بقولكم:{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}[البقرة: ١٣٩]، في شيء من الأشياء، لا في صلاتكم إلى القبلة الأولى، ولا في تمييز الصادق منكم من المنافق، بالامتحان بتغيير الأحكام من القبلة وغيرها، ولا في اختصاصكم به سبحانه، دون أهل الكتاب الجاحدين لآياته، الناكبين عن مرضاته، الناكثين لعهوده.
ولما نزه تعالى نفسه المقدسة عن هذه الإضاعة، علل ذلك بما هو أعم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ} كلهم {لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي: راحم لمن يشاء ممن توصل إليه بعمل صالح، رأفة منه به.
وفرق القفال بين الرأفة والرحمة، فجعل الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي: دفع المكروه وإزالة الضرر، والرحمة: اسم جامع يدخل فيه هذا المعنى، ويدخل فيه الإفضال والإنعام، ولذلك فرق تعالى بينهما فقال:{لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. فالرحيم أعمّ وأشمل من الرؤوف؛ والمعنى: إن الذين آمنتم به رؤوف رحيم، فكيف يضيع إيمانكم، وهو أيضًا باتصافه بهاتين الصفتين، لا ينقلكم من شرع إلى آخر، إلا والثاني أصلح لكم، وأنفع لكم في الدين والدنيا.
وقيل: عنى بالإيمان في هذا الموضع الصلاة، وذلك أنه لما حولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المسلمون: ليت شعري عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، هل تقبل الله منا ومنهم أو لا؟ فأنزل الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم، فسمى الصلاة إيمانًا؛ وهو قول: ابن عباس، والبراء بن عازب، وجماعة من التابعين. واعتمده البخاري في صحيحه، والترمذي في سننه.
ولما أشعر الكلام السابق أهل البلاغة بإحداث أمر في القبلة، فتوقعوا الخبر عن ذلك، وبين رأفته ورحمته بالناس عمومًا، بيّن ذلك برسوله، بأن تحويله إلى الكعبة رأفة منه به، ورحمة له، مع ما تقدم من فوائده فقال تعالى: