ثم بيّن بقية ما أمرهم به، إعلامًا بأن الشرع إنَّما هو معرفة الخالق ومعرفة ما يجب له، ثم معرفة حقوق الخلق على بعضهم بعضًا فقال:{لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأحسنوا، أو تحسنون بالوالدين إحسانًا عظيمًا، وإنَّما قدم الإحسان بالوالدين على ما بعده وعطفه على قوله:{لَّا تعبدون إلَّا الله}، لأنَّ الوالدين في المرتبة الثَّانية، حيث جعلهما الله سبحانه السبب في نعمة الإيجاد الأوَّل، والمباشرين للتربية، واسمهما مشتق من الولادة لأنهما السبب أيضًا في استبقاء ما يتوقع ذهابه، بظهور صورة منه تخلف صورة نوعه، ولذلك أكد سبحانه وتعالى الوصيَّة بهما وكررها في كتابه العزيز فقالها:{وبالوالدين إحسانًا}، فأطلق الوالدين ولم يقيدهما بكونهما مؤمنين، ولا بكونهما كافرين، ومن المعلوم في فن الأصول أن الحكم إذا ترتب على وصف أشعر بعلية ذلك الوصف، فالاَية دالة على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين، وهذا يقتضي العموم.
ثم إنَّه تعالى بين في قوله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (٢٤)} [الإسراء]، السبب الذي من أجله كان وجوب التعظيم، وبالغ في المنع من إيذائهما بقوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء] ثم قص علينا قصة إبراهيم عليه السَّلام وكيف كان يتلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان، في قوله: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)} [مريم] إلى محال من الكتاب الكريم جاءت في هذا الصدد، ثم إن أباه كان يؤذيه ويجيبه بالأجوبة الغليظة، وهو يتحمل ذلك ولا يعامله إلَّا بالإحسان، ولم يقص الله علينا قصته إلَّا لأجل أن نفتدي به كما أرشدنا إلى ذلك بقوله:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}[النحل: ١٢٣] ومن الإحسان إليهما أن لا يؤذيهما ألبتة، وأن يوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجون إليه، وأن يدعوهما إلى الإيمان، إن كانا كافرين وهو مؤمن ويأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين.