للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويزيدهم نفورًا ويودون انقطاعه لكراهتهم له، وأما المؤمن به، فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته، توليه انجذابًا، وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، ويدل على أن هذا شيء خص به هذا الكتاب، أنه يصيب بهذه الروعة من لا يفهم معانيه، ولا يعلم تفاسيره، فكيف بمن علمها.

ثم هو يناديهم قائلًا: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، من يوم نزلت هذه الآية إلى الآن، وقد مضى على نزولها ثلاثة عشر قرنًا (١)، ويسمع هذا النداء علماء اللسان، وأئمة البلاغة، وفلاسفة العالم، وفرسان الكلام، وجهابذة البلاغة، وفيهم الملحد والزنديق والمخالف، فما منهم من أتى بشيء يروى في معارضته، ولا ألف كلمتين في مناقضته، ولا قدر فيه على مطعن صحيح، ولا قدح من تكلف ذلك من ذهنه إلا بزند شحيح، بل المروي عن كل من قصد ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه، وهو يدعوهم إلى المعارضة، ويسفه رأيهم، ويذم نِحَلهم، ويبكتهم وينذرهم ويحذرهم، وهم ساكتون، وإذا اعترضوا عليه بشيء، لم يلبث أن يذهب أدراج الرياح، ويأتيه من إعجازه ريح عقيم لا تمر على شيء من المفتريات إلا جعلته كالرميم، فقوله تعالى:

{مِنْ مِثْلِهِ}، متعلق {بِسُورَةٍ} صفة لها، والتقدير: فأتوا بسورة كائنة من مثل ما نزلنا على عبدنا، فـ {مِنْ} هنا للبيان، لأن السورة المفروضة التي تعلق بها الأمر التعجيزي، مثل المنزل في حسن النظم، وغرابة الشأن، فالعجز عن الإتيان بالمثل الذي هو المأتي به، وهذا لا يتبين إلا بجعل {مِنْ} للبيان، ولا يصح من جهة المعنى أن تجعل {مِنْ} تبعيضية، لأنها توهم حينئذ أن للمنزل مثلًا عجزوا عن الإتيان ببعضه، فيصير التقدير كأنه قيل: {فَأْتُوا} ببعض ما هو مثل للمنزل، فالمماثلة المصرح بها ليست من تتمة المعجوز عنه، حتى يفهم أنها منشأ العجز.

وجوز صاحب الكشاف، أن يكون ضمير {مِنْ مِثْلِهِ} عائدًا على {عَبْدِنَا}، وفيما جوزه غلط من وجوه:


(١) ونحن الآن في مطلع القرن الخامس عشر الهجري.

<<  <   >  >>