للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

البداء ينافي كمال العلم، لأنه يستلزم الجهل المحض، وهو مستحيل على الله تعالى، فالبداء مستحيل على من له ملك السماوات والأرض.

وما النسخ إلا أن الله تعالى علم المصلحة في الحكم تارة فأثبته بالشرع، وعلم المفسدة فيه تارة فنفاه بالنسخ، وذلك لفوائد منها رعاية الأصلح للمكلفين تفضلًا منه تعالى، لا وجوبًا. ومنها امتحانهم بامتثالهم الأوامر والنواهي، خصوصًا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه، ونهيهم عما كانوا مأمورين به، فإن الانقياد له أدل على الإيمان والطاعة، وقد تكلمنا على تفسير هذه الآية بأطول من هذا، وأبدينا منها حكمًا غريبة في كتابنا الموسوم بـ "الأجوبة عن المسائل القازانية" (١)، مما إيراده هنا يجعل الكلام مطولًا، فليراجعه من أحب.

بقي هنا أن يقال: إن قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: ١٠٦] على هذه القراءة يشير إلى صدور النسيان من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجاب عنه "ابن عطية" في تفسيره بقوله: والصحيح في هذا: أن نسيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله أن ينساه، ولم يرد أن يثبته قرآنًا - جائز. وأما النسيان الذي هو آفة في البشر، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم منه قبل التبليغ وبعده، ما لم يحفظه أحد من الصحابة، وأما بعد أن يُحفظ فجائز عليه ما يجوز على البشر، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة، ومنه الحديث حين أسقط آية فلما فرغ من الصلاة قال: "أفي القوم أُبي" قال: نعم يا رسول الله، قال: "فلم لم تذكرْني" قال: خشيت أنها رفعت، فقال: "لم ترفع ولكني نسيتها" (٢).

ولما كان رسخ ما ذكره سبحانه من تمام قدرته، وعظيم مملكته، وما أظهر لذاته المقدسة من العظم بتكرار اسمه العَلَم! وإثبات أن ما سواه عَدَم، فتأهلت القلوب للوعظ، صدعها بالتأديب بالإنكار الشديد، فقال:


(١) هي فتاوى للمؤلف - رحمه الله - وقد أطبعها قريبًا إن شاء الله.
(٢) هو بنحوه في "المسنده" ٣/ ٤٠٧ طبعتنا المرقمة (١٥٣٤٣)، قال في "المجمع" ٢/ ٦٩: رجاله رجال الصحيح.

<<  <   >  >>