للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

استحقاق إتلافها فقد رحمها، وأي رحمة أعظم من ذلك، ولعل القاتل المعفو عنه يستقبل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله، ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله.

ولما كانت هذه منَّة عظيمة، تسبب عنها تهديد من أباها، قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} التخفيف، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل، أو القتل بعد أخذ الدية، فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية، ثم يظفر به فيقتله {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة، هذا ما قاله أكثر المفسرين.

وقال عكرمة، وابن جبير، والضحاك: العذاب الأليم هو في الدنيا، وهو قتله قصاصًا. ومذهب جملة من العلماء، أنه إذا قتل بعد سقوط، كان كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه. وذهب ابن جرير على عادته، فجعل العذاب الأليم عذاب الدنيا بالقتل، قال: لأن الله تعالى جعل لكل ولي قتيل قتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليّه، فقال: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: ٣٣]. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على من قتل قاتل وليّه بعد عفوه عنه، وأخذه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله، كان بينًا أن لا يولَّى من قتله ظلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو، وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء (١)، وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابه, لأن من أقيم عليه حده في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متبَعًا في الآخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما أخبر تعالى بفائدة العفو، أخبر بفائدة مقابله، تتميمًا لتأنيب أهل الكتاب على عدولهم عن النص، وعماهم عن الحكمة، فقال:


(١) قال الشيخ شاكر: في هذه العبارة غموض، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء، ولكن المعنى العام ظاهر.

<<  <   >  >>