للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فرادى، وفي بيوتهم، وفي المساجد، وفي الأبنية والصحراء، لا يختص ذلك بموضع دون موضع، إلا لعلة تمنع إيقاع الصلاة توجد في ذلك الموضع.

ولما كان ربما يظن، أن الرجوع إلى القبلة الأولى يزيل الكلام، بيّن سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك، فقال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ} أي: لأحد منهم {عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}، بأن يقولوا: النبي المبشر به يستقبل بيت إبراهيم عليه السلام، ثم لا ينحرف عنه، وهذا لم يفعل ذلك؛ أو يقولوا: ما جاء بشيء جديد، وإنما هو تبع لنا في قبلتنا، يعني: التي كان عليها، وهي استقباله بيت المقدس، ولما كانت الحجة كلامًا ينشأ عن مقدمات يقينية مركبة تركيبًا صحيحًا، وقع الاستثناء باعتبار تلبس المستثنى بجزء المعنى الذي نفي عن المستثنى منه بدلالة التضمن، فهو قريب من الاستخدام، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: الناس {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، فإنهم لعنادهم ولَدَدِهم (١) لا يرجعون إلى الحق الذي يعرفونه، بل يكون لهم عليكم مجرد كلام هو مادة الحجة، لا حجة بما دلّ عليه، وصفهم بالظلم الذي هو وضع الشيء في غير محله، وبكون الاستثناء على هذا منقطعًا، بمعنى: {لِئَلَّا} يحتج أحد {عَلَيْكُمْ}، لكن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} يقولون، أو يظهرون فجورًا ولددًا في ذلك، كلامًا يسمونه حجة.

ويمكن أن يكون المراد بالـ {حُجَّةٌ}، ما هو أعم من الدليل القطعي والظني، فيكون الاستثناء متصلًا، وحاصله: إن أريد بالحجة الدليل الصحيح، فالاستثناء منقطع، لأنهم ليس لهم دليل صحيح؛ وإن أريد بها الاحتجاج والخصومة، فالاستثناء متصل، والاتصال هو الذي نختاره.

ولما نفى عن أهل هذه القبلة بالثبات عليها كل سبيل، تسبب عنه قوله: {فَلَا تَخْشَوْهُمْ} في هذا الأمر ولا في غيره، فإني أرد عنكم كيدهم، وأوهن أمرهم، {وَاخْشَوْنِي} فلا تخالفوا أمري، ولا تخالفوا ما رأيته مصلحة لكم، {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} وإرادتي اهتداءكم، أمرتم بذلك. فـ "لام" {وَلِأُتِمَّ}،


(١) اللَّدَدُ: الخصومة الشديدة.

<<  <   >  >>