والذي أختاره: أن موضع {ما} من قوله تعالى: {وما أنزل}، جر عطفًا على {ملك سليمان} وتقديره: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}، {و} على {ما أنزل على الملكين}، وذلك لأنَّ السحر لو كان نازلًا عليهما لكان منزله هو الله تعالى، ولا يليق به تعالى إنزال ذلك، ولا ينبغي أن يستبعد هذا، لأنَّ هذا القرآن منزل من عند الله تعالى، ومع ذلك قد ترى كثيرًا من الناس تركوا العمل به وأتوا آياته فجعلوها طلاسم وعزائم، فقالوا مثلًا: الآية الفلانية إذا كتبت مقلوبة مثلًا على عظم ميت أو غيره بدم خفاش، وقنفذ أو نحو ذلك، ودفنت في طريق قوم أو في منزلهم حصلت بينهم العدواة والبغضاء، وإذا نفر محب عن محبوبه فلتكتب له آية كذا في أشياء اخترعوها، فإن المحبين يتواصلان إلى غير ذلك مما هو مسطور في كثير من الكتب التي بأيدي الناس، وحاشى أن يكون القرآن أنزل لأمثال هذه المقاصد السافلة.
فإن قلت: ما هو الَّذي أنزل على الملكين حينيذٍ؟
قلت: هو الشرع والدين، وكيفية ترتيب الأجرام العلوية، وتشريح الأفلاك وما أوح تعالى بها من الخصائص، ويحتمل أن يكون مع ذلك فن النبات وما أودع فيها وفي المعادن من الخواص، وباقي المواليد الثلاثة وما يشملها من الطبيعي والرياضي، ثم إن الشياطين تركوا ما أنزلت هذه العلوم لأجله، واشتغلوا بأحكام فن النجوم ليتوصلوا به إلى السحر، واستعملوا المعدنيات فيما يورث التخيل، ويحل رابطة الألفة بين المرء وزوجه.
وكان الملكان يقولان للمتعلم منهما:{إنما نحن فتنة}، أي: إنا أتينا هذه العلوم فتنة واختبارًا لكم، وتعليمًا لما ينفعكم في أمر معاشكم من معرفة الأوقات، وإظهار حكمة الباري تعالى، فلا تتركوا ما لأجله كانت هذه العلوم، وتتبعوا ما لم تنزل لأجله فتكفروا بذلك، فكانوا لا يصغون إلى النصيحة، ويتعلمون منهما الَّذي يقصدون به التفريق بين المرء وزوجه، وأمثال هذه المؤذيات.
فرد عليهم تعالى في بقية هذه الآية، فكان مثله كمثل من يتعلم فن النبات والحيوان والمعادن، ثم لا يلتفت منه إلا إلى تركيب السموم والأشياء المضرة