للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يفيده الوصف الأول. والوصف الثاني يفيد: أنَّه خلق على الوصف الَّذي ذكر في التوراة، ويحتمل: أن المراد به تصديقه على قواعد التوحيد وأصول الدين، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم.

ويحتمل: أن المراد أنَّه كان معترفًا بنبوة موسى عليه السلام، أو بصحة التوراة. ثم {لما جاءهم الرسول} الموصوف بهذه الصفات {نَبَدَ فريقٌ من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم}، فكتاب الله هو التوراة لأنهم بكفرهم برسول الله المصدق لما معهم كافرون بها، نابذون لها. وقيل: كتاب الله القرآن، وهو الأظهر، إذ الكلام مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - نبذوه بعدما لزمهم تلقيه بالقبول، كأنهم لا يعلمون أنَّه كتاب الله لا يدخلهم فيه شك، يعني: أن علمهم بذلك رصين، ولكنهم كابروا وعاندوا ونبذوه وراء ظهورهم. مَثَّل لتركهم وإعراضهم عنه، مثلًا بما يُرمى به وراء الظهر، استغناء عنه وقِلَّة التفات إليه.

قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرؤونه ولكنهم نبذوا العمل به. وقال سفيان: أدرجوه في الديباج والحرير، وحلوه بالذهب، ولم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه، لكن كلام الشعبي وسفيان يدل على أن المراد بكتاب الله: التوراة.

ويمكنني أن أقول: المراد به جنس كتاب الله، لأنَّ القرآن لما كان مصدقًا لما معهم ونبذوه ظهريًا، كان نبذهم له نبذًا للتوراة، ويكون معنى قوله: {كأنهم لا يعلمون}، أن القرآن والتوراة والإنجيل كتب الله، وأن كل واحد منها حق والعمل به واجب، وأشعرَ نفي العلم عنهم بأن ذلك النبذ كان عن علم ومعرفة، لأنَّه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم، فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نُبوته، إلا أنهم جحدوا ما يعلمون، وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم.

ولما كانت سنة الله جارية، بأنه: ما أمات أحدٌ سُنَّة إلا زاد في خذلانه، بأن أحيا على يده بدعة، أعقبهم نبذهم لكلام الله أولى الأولياء، إقبالهم على كلام الشياطين الذين هم أعدى الأعداء، فقال:

<<  <   >  >>