للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بمعنى "صير" فـ {مثابة} مفعول ثانٍ، وقيل: هي بمعنى خلق أو وضع، و "المثابة" المرجع، وتاؤها للمبالغة، لكثرة من يثوب إليه، أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة، ويجوز أن تكون "المثابة" بمعنى الجمع، أي: {وإذ جعلنا البيت} مجمعًا للناس، أي: جعلناه مجمعًا للحجاج، وقال ابن عباس: معاذًا وملجأ. والأقرب قول من قال: مرجعًا، ومعناه: يرجعون إليه بكلياتهم، كما تفرقوا عنه اشتاقوا إليه، هم أو غيرهم، آيةً على رجوعهم من الدنيا إلى ربهم، {وأمنًا} مصدر، جعل البيت إياه على سبيل المبالغة لكثرة ما يقع فيه من الأمن، وكان في الجاهلية معاذًا لمن استعاذ به، وكان الرجل منهم لو لقي قاتل أبيه أو أخيه فيه لم يهجه، ولم يعرض له بشيء حتى يخرج منه، وكان كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: ٦٧] قال الأصفهاني: وهذا شيء توارثه العرب من دين إسماعيل عليه السلام، فبقوا عليه إلى أيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاليوم من أصاب في الحرم جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع، انتهى.

ويصح أن يكون على سبيل الأمر، والمعنى: أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع آمنًا من الغارة والقتل، فيكون محترمًا بحكم الله، وإنما جعل الله البيت مثابة للناس وأمنًا لما فيه من منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الدنيا، فلأن أهل الشرق والغرب يجتمعون هناك، فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع، وأيضًا فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطرق والبلاد، كما جرى في زمننا من إنشاء السفن البرية من دمشق حتى المدينة، وسيتصل سيرها إلى مكة (١)، وإعمار ما كان قابلًا للعمران من تلك البقاع، وفيه أيضًا مشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا، واجتماع المسلمين الذي لولا الحج لم يجتمعوا، وتعارف بعضهم ببعض، وشكاية بعضهم لبعض ما أهمهم، فيقوم أولو الحمية بنصرة بعضهم بعضًا، ويقوم العارفون بتلك الحكمة بضم الشمل وجمع


(١) يقصد بالسفن البرية خط سكة حديد الحجاز وهو وقف إسلامي. ولكن عطل أثناء الحرب العالمية الأولى. وحتى اليوم لم ينجز إصلاحه ويا للأسف.

<<  <   >  >>