للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما بين سبحانه وتعالى أنهم ضيعوا أمرًا واحدًا من أوامره، واستخفوا به، وهو تحريم السبت، عذبهم بعذاب لم يعذب به أحد من العالمين فقال:

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)}.

يقول تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا}، أي: تعمدوا العدوان {منكم في السبت}، بأن استحلوه وتركوا ما حللهم فيه من التجرد للعبادة وتعظيمه، واشتغلوا بالصيد. وسبب ذلك: أن الله أمرهم بيوم الجمعة فأبوا إلَّا السبت، فألزمهم الله إياه، وجعله لهم محنة، وحرم عليهم فيه العمل، فابتلاهم بالسمك، فما كان يبقى حوت في البحر إلَّا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت، كما قال تعالى: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} [الأعراف: ١٦٣]، فحفروا حياضًا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم، ثم إنهم كانوا يصطادون على تهيب وخوف من العقوبة، فلما طال زمن عفوه عنهم، وحلمه سبحانه، فتجاهروا بالمعصية، كان أمرهم على ما ذكره تعالى بقوله: {فقلنا لهم: كونوا قردة خاسئين}، أي: كونوا جامعين بين القردية والخسوء، وهو: الصغار والطرد، {فجعلناها} أي: تلك المسخة {نكالًا} أي: عبرة، تنكل, أي: تمنع من اعتبر بها، وقيدًا مانعًا {لما بين يديها} من المعاصي من أهل عالمها الشاهدين لها، {وما خلفها} ممن جاء بعدهم من الأمم والقرون، لأنَّ قصتهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين، {وموعظة للمتقين} الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، ولكل متقٍ من غيرهم، وقد أشعر هذا أن التقوى عصمة من كل محذور، وأن النقم تقع في غيرهم وَعظًا لهم، هذا وقوله تعالى: {كونوا قردة خاسئين} ليس بأمر لهم لأنهم لم يكونوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة، بل المراد

<<  <   >  >>