للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} تعجب من حالهم في التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة منهم، والمعنى: ما أجرأهم على عذاب النار، وأعملهم بأعمال أهلها، وقد سمع من العرب: ما أصبر فلانًا على الله، بمعنى: ما أجرأه عليه، وإنما يعجب الله خلقه بإظهار الخبر عن القوم {الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، واشترائهم بكتمان ذلك ثمنًا قليلًا من السحت (١) والرّشا (٢) التي أعطوها، على وجه التعجب من إقدامهم على ذلك، مع علمهم بأن ذلك موجب لهم سخط الله، وأليم عقابه، وسبيل هذا سبيل قولهم: ما أشبه سخاءك بحاتم، يريدون ما أشبه سخاءك بسخاء حاتم.

وقوله تعالى: {ذَلِكَ} أي: ذلك الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده، بسبب أن {اللَّهَ نَزَّلَ} ما نزل من {الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}، فمن كتمه فقد حاول نفي ما أثبت الله، فضادّ الله في ملكه، ومن خالف فيه، وهو الذي لا شبهة تلحقه، فقد عد الواضح ملبسًا، فقد أبعد المرمى، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ} في كتب الله، فقالوا في بعضها حقًا، وفي بعضها باطلًا. {لَفِي شِقَاقٍ}، لفي خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق، هذ ابناء على جعل اللام في {الْكِتَابِ} للجنس، وإن جعلت للعهد كانت الإشارة، إما إلى التوراة، واختلافهم حيث آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها بكتمه، وإما إلى القرآن واختلافهم فيه، قول بعضهم هو سحر، وبعضهم شعر، وبعضهم أساطير الأولين.

وقوله: {لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} يعني: أن أولئك لو لم يختلفوا, ولم يشاقوا، لما جسر هؤلاء أن يكفروا، وهذه حالة من أصله الله على علم، ولما كان الخطاب في هذه الآيات، والتي قبلها ظاهره خطاب لليهود والنصارى، على مقتضى أسباب النزول، كان الأمر على طريق عموم اللفظ، فألحق بهم سائر من تنكّب عن طريق الهدى، فيلحق باليهود منافقو أمتنا، ممن ارتاب بعد إظهار ايمانه، وفعل أفاعيلهم من المكر والخديعة والاستهزاء، ويلحق بالنصارى من اتصف بأحوالهم،


(١) السحت الحرام، أو ما خبث من المكاسب فلزم عنه العار.
(٢) الرشا: جمع رشوة. وهو المقدم للظَلَمة من غير وجه حق.

<<  <   >  >>