للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فليس من العادة أن يعلموها أولادهم، وأيضًا فإنه يوجد من بني آدم قوم يتكلمون بألفاظ ما سمعوها قط من غيرهم، كما أورد هذا الإمام "تقي الدين الحرَّاني" في كتاب "الإيمان" له.

والذي يقتضيه سياق الكلام المنزل، أن الله ألهَمَ النوع الإنساني أن يعبر عما يريده ويتصوره بلفظه، وأن أول من علم ذلك أبوهم آدم عليه السلام، وهم علموا كما علم، وإن اختلفت اللغات، فالإلهام كاف في النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة، فمن ادعى وضعًا متقدمًا على استعمال جميع الأجناس، فقد قال ما لا علم له به، وإنما المعلوم بلا ريب هو الاستعمال، نعم إن إلهام الله لآدم أن يعبر عن جميع ما يريده بلفظه، كان على سبيل العموم، لأن لفظ {الْأَسْمَاءَ} عام مؤكد بقوله {كُلَّهَا}، فلا يجوز تخصيصه بالدعوى، فآدم كان في إمكانه أن يقدر على تسمية ما يراه من جميع الأجناس بلا استثناء، فكان له لسان خاص به، ثم اختلفت اللغات لاختلاف أمزجة الألسنة، واختلاف أمزجة الألسنة علته وسببه اختلاف الأهوية وطبائع الأمكنة. فإذا غلب البرد مثلًا على مكان برد هواءه، وطبع البرد التكثيف والتثقيل، لأن العنصرين الباردين، وهما الماء والأرض ثقيلان، كثيفان، والماء أشدهما بردًا والأرض أشدهما كثافة، فيغلب الثقل على ألسنة سكان ذلك البلد، فيثقل النطق على ألسنتهم، ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة، فيجيء النطق بها ثقيلًا كالعجمي والتركي، وغيرهما. وإذا غلب الحر على مكان سخن هوائه، وطبع الحرارة التخفيف والتحليل والتلطف، فتغلب الخفة على ألسنة أهل ذلك المكان، فيخف النطق على ألسنتهم، ثم يضعون الألفاظ المخصوصة للمعاني المخصوصة، فيجيء النطق بها خفيفًا سمحًا سهلًا، كاللغة العربية، ولهذا كانت أفصح اللغات وأشرفها وأحسنها، وحصل الإعجاز والتحدي بكلام الله تعالى النازل بها دون كلامه النازل بغيرها، مع أنه قد كان في قدرة الله سبحانه وتعالى أن يعجز أهل كل لسان بما نزله من كلامه بذلك اللسان.

ثم إن الله لما ألهم آدم أن يعبر عن كل ما يريده ويتصوره بلفظه، وأظهر ذلك من القوة إلى الفعل، {عَرَضَهُمْ} أي: عرض مسميات الأسماء على الملائكة، فقال معجزًا لهم: {أَنْبِئُونِي} أي: أخبروني إخبارًا قاطعًا بأسماء هؤلاء

<<  <   >  >>