للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أسلم وجهه لله برهانًا، وأفادت أيضًا ترغيبهم في الإسلام، وبيانًا لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه، ويعدلوا إلى هذه الطريقة، فكأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم لا تفوزون بالجنة، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله، وأحسنتم فلكم الجنة.

ثم بين أهل الجنة بقوله: {من أسلم وجهه لله} أي: من أخلص نفسه لله لا يشرك به غيره، وأتى بـ "الوجه" هنا عبارة عن الذات، لأنه أشرف ما ظهر من الإنسان، فمن أسلمه أسلم كله، كما أن الإيمان إذعان القلب الذي هو أشرف ما بطن، وإذعان جميع الأعضاء، وأيضًا قد يكنى بالوجه عن النفس، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: ٨٨] {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (٢٠)} [الليل: ٢٠]؛ وأيضًا فإن أعظم العبادات السجود، وهو إنما يحصل بالوجه.

وأما قوله: {وهو محسن} فمعناه: لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بوجه قبيح، فإن كثيرًا من الكفار يتواضعون لله، لكن بأفعال قبيحة، ويصح أن تقول: وهو محسن في جانب الحق، بإذعان القلب، وفي جانب الخلق بإرضاء الرب، فصار يعبد الله كأنه يراه، فطابق سرّه علنه.

ولما نفوا الأجر عن غيرهم، وأثبته سبحانه للمتصف بالإسلام منهم وممن سواهم، وكان ربما قيل: إنه أعطى غيرهم لكونه الملك المطلق بغير سبب، ربط الأجر بالفاء دليلًا على أن إسلامهم هو السبب، فقال: {فله} خاصة {أجره عند ربه} إحسانًا إليه بإثبات نفعه، على حسب مأربه به في كل شريعة، ولما كان ربما ادعى أنه ما أفرد الضمير في قوله: {فله أجره عند ربه} إلا لأن المراد واحد بعينه، فلا يقدح ذلك في دعوى أنه لن يدخل الجنة إلا اليهود، أو النصارى، جمع فقال: {ولا خوف عليهم} من آتٍ، {ولا هم يحزنون} على شيء فات، دفعًا لضرهم.

ولما أبطل دعوى اختصاصهم بالرحمة قدحًا منهم في غيرهم، وأثبتها للمحسنين، أتبع ذلك قدح كل فريق منهم في الآخر وبيان انتفائها عنهم بإساءتهم،

<<  <   >  >>