لسالكٍ طريقين: أحدهما فيه فلاحه ونجاحه، والثاني فيه خساره، ثم تقول له قد هديتك وأضللتك، ومن ثم ذهب إمام الحرمين إلى أن الأفعال واقعة بقدرة يخلقها الله في العبد، إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع، انتهى.
ولما كان البيان يزيد المهتدي هدى، والضال ضلالًا، قال:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}، والفاسق: الخارج عن الطاعة، مأخوذ من قولهم فسقت الرطبة من قشرها، أي: خرجت، وهذا بعينه معنى قوله تعالى:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} أي: يخرجون عنه بعدما دخلوا فيه، فهو تفسير للفاسقين، وإذا تحققت هذه المسالك، وهو أن القرآن يفسر بعضه بعضًا، وأنه يجب تفسير مفرداته على مقتضى ما كان مصطلحًا عليه أيام نزوله من كلام العرب، علمت ما يغلط به كثير من الناس من أنهم قد تعودوا ما اعتادوه، إما من خطاب عامتهم، وإما من خطاب علمائهم، باستعمال اللفظ في معنى، فإذا سمعوه في القرآن والحديث، ظنوا أنه مستعمل في ذلك المعنى، فيحملون كلام الله ورسوله على لغتهم النبطية (١)، وعادتهم الحادثة، وهذا مما دخل به الغلط على طوائف، بل الواجب أن يعرف اللغة والعادة والعرف الذي نزل به القرآن والسنة، وما كان الصحابة يفهمون من الرسول عند سماع تلك الألفاظ، فبتلك اللغة والعادة والعرف خاطبهم الله ورسوله، لا بما حدث بعد ذلك، وهذه قاعدة كبيرة من قواعد التفسير.
وقو له تعالى:{الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية، يلوح بأنوار أسرار البلاغة، وذلك أن أصل النقض، إنما هو: الفسخ وفك التركيب، ثم إن العرب لما كانوا يسمون العهد بالحبل، لما فيه من إثبات الوصلة بين المتعاهدين، جاز استعمال النقض، الذي يوصف به الحبل، في إبطال العهد جريًا على عادتهم من سكوتهم عن ذكر الشيء المستعار، والرمز إليه بشيء من روادفه، فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه، و {الْعَهْدُ} المَوْثق، يقال: عهد إليه في كذا، إذا وصاه به ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه واستوثق منه.
(١) لا يقصد المؤلف- رحمه الله- اللغة المعروفة بهذا الاسم، بل كل لغة، أو استعمال شائع في هذا الزمن أو زمن آخر. وهذا ليس في تفسير القرآن فقط بل مطرد في الأحاديث والأحكام الفقهية، فضلًا عن القصص والأخبار والآداب.