للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وثانيهما: قال ابن السكيت: يقال للشيء الثابت في موضعه إلا أنك لم تهتد إليه: ضللته؛ قال "الفرزدق" (١):

وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دارِمًا ... كَضلالِ مُلتَمِسٍ طَرِيقَ وَبَارِ

وعليه فمعنى الآية: أن الله أورد لهم من الأمثال، ما علم كثير منهم ما هو المراد منها فاهتدى، وخفي على كثير منهم فَضَلَّ، ولم يهتد إلى ما هو الواجب عليه أن يعرفه، فيحكم الله بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار، في الآخرة.

ثالثها: أن الرجل إذا ضل باختياره عند حصول شيء، من غير أن يكون لذلك الشيء أثر في إضلاله، يقال لذلك الشيء: إنه أضله، قال تعالى في حق الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: ٣٦] ومعناه: ضلوا بهن، وقال في حقهم أيضًا: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: ٢٤] أي: ضل كثير من الناس بهم.

وفي هذه الآية، لما قال الكفار: ما الحاجة إلى هذه الأمثال؟ وما الفائدة منها؟ واشتد عليهم هذا الامتحان، حسن أن يقول تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} ويجوز أن يكون الإضلال من التخلية، وترك المنع بالقهر والجبر، فيقال: أضله إذا خلاه وضلله، ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية حتى فسد وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته.

وهذه المعاني واضحة لمن تأملها، ولا يخفى على من له معرفة بمعاني كلامه تعالى، أنه سبحانه يبين لعباده طريق الهدى وطريق الضلال، ويبرهن على حسن الأول وقبح الثاني، فإن تبع العبد طريق الهدى، نسب هداه إلى الله تعالى من حيث إنه بينه له، وإذا تبع طريق الضلالة نسب إضلاله إلى الله تعالى، باعتبار أنه بين له أن هذه طريق الضلالة وحذره منه فاتبعه، وهذا على حد ما لو بينت


(١) هي في لسان العرب كما هنا وفي شرح ديوان الفرزدق، للصاوي: ٢/ ٤٥٠، بلفظ (تَطْلُبُ) بدلًا من (يَدْعُو).
وبار: قرية من وراء يبرين في أعالي بلاد بني سعد مما يلي الشحر. زعموا أنها مساكن الجن فلا تسلك، وما أكثر ما زعموا للجن.

<<  <   >  >>