للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تطلع إلى نوع امتناع العاقل وغيره، كأنهم يسعون في ذلك ويبادرون إليه مبادرة اللبيب الحازم، وما أحسن قول ابن ميلق في ذلك:

والعبد فهو فقير رب راوية ... بالدهر غُرَّ وبالأحوال غيرُ دَرِي

قد ساقه قدر نحو القضاء ومَنْ ... يستطع رد قضاءٍ جاء عن قَدَرِ؟

ولما ذكر أنه مالك لجميع من في السماوات والأرض، ذكر الطرفين وخصهما بالبداعة، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات، فقال: {بديع السماوات والأرض} أي: خالقهما على غير مثال سبق، والمعنى: أنه تعالى بارئ السماوات ومبدعها، على غير مثال سابق، وهو الذي ابتدع من ينسبونه إليه بأنه ولده بقدرته، فكيف يجوز عليه أن يكون له ولد.

ولما ذكر ما دل على الاختراع، ذكر ما يدل على طواعية المخترع، وسرعة تكوينه، فقال: {وإذا قضى} أي: أراد {أمرًا} منهما أو من غيرهما، تكون ذلك الأمر، ودخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف، ولا يمتنع، ولا يكون منه الإباء، أكد بهذا الاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة، كانت حاله مباينة لحال الأجسام في توالدها.

وقد اختلف المفسرون هنا اختلافًا كبيرًا في مخاطبة المعدوم، وقالوا: إن الشيء قبل وجوده يكون معدومًا، فكيف يخاطبه تعالى بـ: {كن} وأطالوا في ذلك، ومحصل ما قاله ابن جرير: أن قوله تعالى: {وإذا قضى أمرًا} عام، في كل ما قضاه الله وبرأه، وإذا كان ذلك كذلك، فأمر الله لشيء إذا أراد تكوينه موجودًا بقوله {كن} في حال إرادته إياه مكونًا، لا يتقدم وجوده الذي أراد إيجاده وتكوينه، إرادته إياه، ولا أمره بالكون والوجود، ولا يتأخر عنه، فغير جائز أن يكون الشيء مأمورًا بالوجود، مرادًا كذلك إلا وهو موجود، ولا أن يكون موجودًا، إلا وهو مأمور بالوجود، مرادًا كذلك، ونظير هذه الآية: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)} [الروم: ٢٥] فإن خروج القوم من قبورهم، لا يتقدم دعاء الله ولا يتأخر عنه، انتهى.

<<  <   >  >>