للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما أرشدهم إلى الجهة التي يتعرفون بها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به حتى يعثروا على حقيقته وسره، وامتياز كونه حقًا من كونه باطلًا قال لهم:

{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (٢٤)}.

أي: فإن لم تعارضوه، ولم يتسهل لكم مطلوبكم الذي تطلبونه، وبغيتكم التي تبغونها، وظهر لكم أن القرآن معجوز عن الإتيان بمثله، فقد انكشف الحق عن خالصه، ووجب التصديق. {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي: آمنوا وخافوا العذاب المعد لمن كذب؛ ففي الآية دليلان على إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:

أحدهما: كون المُتحدى به معجزًا، لأن تلك الطائفة التي عجزت عن الإتيان بمثله مع تكاثر عددها، وتهالكها على المغالبة، كانت في غاية البلاغة، ونهاية الفصاحة، فلما عجزت عن ذلك، علم عادة أنه معجوز عن الإتيان بمثله أبد الدهر، إذ لا يتصور زيادة عما كانوا عليه من العدد التي تؤهلهم للمعارضة وأسبابها.

والثاني: الإخبار بقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا}، وهو غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ويمكن في هذا المقام أن يقال: إن صدق الأخبار إنما يعلم بعد انقراض الأعصار كلها، ويوضح بما ينفي هذا المقول، بأن الخطاب إنما كان خطاب مشافهة، فيختص بالموجودين، فإذا انقرضوا ولم يفعلوا تبين صدقه، وكان معجزة، وكذا قبل انقراضهم للقطع بأن قدرتهم لا تزيد بعد ذلك الزمان الذي تحدوا فيه.

وقد حرر هذا الجواب جماعة من المفسرين المتأخرين، منهم السيد الشريف الجرجاني في حاشية أوائل الكشاف، والذي أراه أن هذه الآية حجة على المعارضين في كل عصر، وفي كل جيل، والقرآن ينادي كل من يروم المعارضة، ويقيم الحجة على الموجودين، فإذا وجد المعدومون أقام عليهم الحجة مجددًا، وأظهر المعجزة، وهكذا في كل جيل ليكون الإيمان بأن القرآن منزل من عند الله اجتهادًا لا تقليدًا، وبعلم كل فرد وجد، بأنه كما أن من قبله لم يفعل المعارضة،

<<  <   >  >>