للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: ١٤٤]. فقال السفهاء من الناس - وهم اليهود -: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

قال في "الكشاف": فإن قلت: أيُّ فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتضمنه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم، وأردّ لشغبه، وقبل الرمي يراش السهم، انتهى.

وعلى هذا المنوال جرى علماء الجدل في مناظرة الخصم، حيث يقولون له: فإن قلت كذا، أو: إن الذي تعارضه بكذا، سيقول كذا، فجوابه كيت وكيت. وهي نكته بديعة أحسن ما يستدل على صحتها بهذه الآية.

و{السُّفَهَاءُ}: جمع سفيه، وهو الذي يعمل لغير دليل، إما بأن لا يلتفت إلى دليل، فلا يتوقف إلى أن يلوح له، بل يتبع هواه، أو يرى غير الدليل دليلًا، ويطلقُ لفظ السفيه على من لا يميز بين ما له وما عليه، ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره، ولفظ {السُّفَهَاءُ} هنا عام شامل لأهل الكتاب ولغيرهم، كما يدل عليه قوله: {مِنَ النَّاسِ} فيعم كل من قال ذلك، لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا لم يتركوا مقالًا البتة.

وقولهم: {مَا وَلَّاهُمْ} أي: ما صرفهم {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} أكثر المفسرين على أن القبلة المذكورة هي: بيت المقدس، أي: ما صرفهم إلى الكعبة عن بيت المقدس، والقبلة ما يجعل قبالة الوجه، وقيل: إنهم قالوا: حينما ترك التوجه إلى الكعبة في الصلاة، وتحول إلى بيت المقدس، وفي ذلك إشارة، إلى أنه لما انقطعت حججهم، ألقوا هذه الشبهة إلى من اختدعوه من المنافقين، ولم يقدروا أن يواجهوا بها أحدًا ممن خالط الإيمان بشاشة قلبه، كما قالوا فيما تقدم: {كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} ونحوه، علمًا منهم بأن المحاج لهم عن المؤمنين من له الحجة البالغة، ولذلك جاء جوابهم استئنافًا لجواب من يقول: فما نقول لهم إذا

<<  <   >  >>