للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبهذا يتضح الجواب عن السؤال الوارد هنا، وهو أن يقال: كيف أثبت لهم العلم أولًا في قوله: {ولقد علموا} على سبيل التأكيد القسمي، ثم نفاه في قوله: {لو كانوا يعلمون} وأجاب عنه في "الكشاف" بقوله: معناه {لو كانوا يعلمون} بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه. وأجاب "الأخفش"، و "قطرب" بالفرق، فجعلا الذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه، وهم الذين قال تعالى في حقهم: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (١٠١)} [البقرة: ١٠١]، وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر، فهم الذين لا يعلمُون. وأجيب أيضًا بتسليم أن الكل واحد، المثبت لهم العلم والنافي عنهم، لكنهم علموا شيئًا وجهلوا شيئًا آخر، علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق، لكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة، وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها.

ولما بين تعالى ما عليهم فيما ارتكبوه من المضار، أتبعد ما في الإعراض عنه من المنافع، فقال:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)}.

{ولو أنهم آمنوا} أي: بما دعوا إليه من هذا القران، ومن اعتقاد أن الفاعل في كل شيء إنما هو الله تعالى، لا السحر، {واتقوا} ما يقدح في الإيمان من الوقوف مع ما كان حقًّا فنسخ من التوراة فصار باطلًا، ومن الإقدام على ما لم يكن حقًّا أصلًا من السحر، لأثيبوا خيرًا مما تركوا لأن (من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه) (١)، هكذا الجواب، ولكنه عبر عنه بما يقتضي الثبوت والدوام والشرف إلى غير ذلك مما تقصر عنه الأذهان من بلاغات القرآن، فقال: {لمثوبة} صيغة مفعُلة بضم العين، من الثواب، وهو الجزاء بالخير، وفي الصيغة إشعار بعلو وثبات، وشرفها [بقوله: {من عند الله} زادها شرفًا] (٢) بقوله: {خير} مع حذف المفضل عليه.


(١) صح معناه بسند على شرط مسلم بلفظ: "إنك لن تدع شيئًا لله عَزَّ وَجَلَّ إلا بذلك الله به ما هو خير لك منه". أخرجه أحمد ٥/ ٣٦٣ (٢٣٠٦٨). وتراجع "السلسلة الصحيحة" برقم (٥).
(٢) زيادة من البقاعي.

<<  <   >  >>