للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وسلك مسلكهم جميع الدهريين، فلذلك ترى منهم من همه بناء المدارس، ودعوة الناس، ومنهم المتفرقون في البلاد يطلبون وظائف التعليم، وينالون من ذلك مطالبهم، والكل يتعاونون على إذاعة خيالاتهم الباطلة، فلذلك كثرت أضرابهم في الأقطار، ولا جرم أنه إذا استفحل أمرهم، كانوا سببًا لانقراض النوع البشري، فليكن العاقل على بصيرة من أمره في هذا الزمن، ولا يغتر بظواهر الأقوال.

ثم إن ههنا بحثًا يؤخذ من هذه الآية على مسلك أصحابنا المؤمنين بالله وبرسوله، وبكتابه المنزل، وهو: أن بعض الفقهاء استدل بهذه الآية على أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يمنع شيء إلا بدليل، وإليه ذهب الحنفية وبعض الحنابلة، وقال قوم: الانتفاع بالأعيان قبل ورود الشرع على المنع، وإليه ذهب بعض المعتزلة، وبعض الحنابلة، وقال جماعة: بالوقف، وهم الذين يقفون في الأحكام عند تجاذب الأدلة لها.

والمسألة طويلة الذيل، وقد أطيل الكلام عليها في "فن أصول الفقه" والذي تقتضيه الآية: أن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعًا، وإذا كان مخلوقًا لنا، والله تعالى ذكره في معرض النعم التي عمت المكلفين بأسرهم، فيكون مباحًا لنا، إلا أن يأتي بيان من الشرع بمنع شيء منه، فإننا نتركه عملًا بذلك البيان، وكذلك تفيد الآية، أننا إذا أهملنا استعمال ما خلق لنا، وتركنا أمر الزراعة مهملًا، ولم نمل إلى استخراج المعادن من مكامنها لنفع عباد الله تعالى، ولم ننظر في خصائص الأشياء للانتفاع بها، وأعرضنا عن هذه النعم ونأينا عنها جانبًا، كان ذلك إعراضًا منا عما خلق لأجلنا من النعم، فيوشك أن تسلب منا وتعطى إلى غيرنا ممن ينتفع بها، ففي الآية دليل وبيان واستبصار.

ولما أقام تعالى الدليل على المبطلين مِن خلقه، ومما يشاهدونه من أنفسهم، أقام دليلًا آخر مما يشاهدونه من خلق السموات، فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ابتدأ بخلق الأرض أولًا، ثم بخلق السماء كما هو شأن البنّاء، حيث يبدأ بعمارة القواعد والأساس، ثم يبني الأعالي بعد ذلك، نعم هو القادر على أن ينشئ الأعالي قبل التحت، ولكنه أراد أن يعلّمنا سنته في خلقه، ويرشدنا إلى أن الأمور

<<  <   >  >>